1. نحو نخب سياسية فاعلة في سيرورة التغيير
لا شك أن أمتنا العربية والإسلامية تمر من منعطف حاسم حرج تتناسل فيه الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية يوما بعد يوم، مما يجعل مستقبل الأمة مرهون للمجهول، ومفتوح على كل الاحتمالات، وقولنا هذا لا يتعارض مع إيماننا ويقيننا في وعد الله تعالى وموعود رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتمكين لهذه الأمة، بل من تمام هذا اليقين ترقب ما يصنعه الملك الوهاب في ملكه والتوسل بالأسباب لتقريب هذه البشارة تمكينا لأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأقل كلفة ممكنة.
نعم، إن واقع الأمة يفرض على كافة العقلاء الفضلاء تغليب منطق التفاهم والتقارب والعمل على رأب الصدع ولم الشمل، في اتجاه بلورة حل جماعي ينتصر للإرادة الشعبية ويعبر عن هموم المستضعفين ويبحث عن صيغ الحكم الرشيد الذي يكرس قيم العدل والحرية والكرامة، ولن يكون للنخب السياسية فيه إلا دور المقدم على من سواه، إنه مسار توافقي يطلب التفاف الجميع على مطالب كلية جامعة نورد بعضها كالتالي:
مطلب الحوار المفتوح
إن من أقوى ما تستقوي به الأنظمة الاستبدادية هو حالة التشتت والتشرذم التي تبصم الساحة السياسية، واستيعابا منها لقاعدة فرق تسد تجدها حريصة كل الحرص على إجهاض أدنى محاولة للتقريب بين الفرقاء بل تعمل جاهدة لتعميق الهوة بمختلف الوسائل والسبل، وإلهاء الفاعلين بخلافاتهم وجرهم لمعارك جانبية تحجب عنهم ميدان المعركة الحقيقة.
ورغم وضوح هذا بجلاء سافر لم تتمكن النخب السياسية من تجسير هذه الهوة بتجاوز حدود التعبير الصادق عن حسن النوايا إلى الانخراط الاختياري المبدئي في حوار جاد ومسؤول. إن الحوار قد يكون تكتيكا يَلجأ إليه رافع لوائه اضطرارا، إما فكا لعزلة أو بحثا عن أنصار له في موقف معين أو إعدادا لاستحقاقات قادمة أو حشدا لإجماع صوري. وهو أمر يناقض الحوار الاختياري المبدئي الذي يؤسس له نظريا من النص الشرعي)ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك. ومن الفكر الوضعي الذي يتبنى الديمقراطية أداة لتنظيم فضاء التعدد والاختلاف، مبدئيته تتزكى من واقع العنف الساري في مجتمعات عربية أوصدت باب الحوار بين مكوناتها السياسية فكان البديل مسلسل التدمير والتقتيل، مما يجعل أي عاقل في هذه الأمة لا يختار بديلا عن الحوار إلا الحوار) 1 .
ففي أوضاعنا الراهنة ما عاد الحوار ترفا فكريا تعمد إليه النخب كلما سمحة لها التزاماتها بل أصبح ضرورة مقدمة على ما سواها بل مدخلا لما سواها، فعلى نخبنا السياسية أن تتحدى التاريخ وما راكمه من عقد نفسية وأعطاب فكرية وسياسية وتتحدى الواقع وما يفرضه من كوابح تختلف حدتها من بلد لآخر ومن لحظة سياسية لأخرى. إنه تحدي إنه التزام إنه أمانة. يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى مخاطبا الفضلاء الديمقراطيين: وأنتم جزء لا يتجزأ من الأمة والقفز على حضوركم وكأنكم عدم وهم لا يساور عقولنا، فلا مناص من التعامل بيننا) 2 .
ويقول رحمه الله تعالى: سينتهي السجال بين الإسلاميين واللائيكيين عندما يصل الجميع إلى الباب المسدود، ويفقد كل طرف المبرر السهل الذي كان يشهره حجة دامغة في وجه خصمه، ليلتقي الإسلامي الذي كان البارحة يصب اللعنة على الآخرين بمثقَّفِ المجتمع المدني في ورشة العمل، وليضطرا إلى التخلي عن أحكامهما الجاهزة، حتى تتضح القيمة الحقيقية لكل واحد منهما) 3 .
فإذا أنجحت نخبنا السياسية حوار التعارف والتقارب والاعتراف بالآخر تكون على موعد مع ورشة عمل جديدة يتدرب فيها الجميع على بناء المشترك وما أكثره، ورشة عمل تؤسس لحوار وطني جاد ومفتوح؛ مفتوح على الشعب باعتباره صاحب السيادة الفعلية، ومفتوح على الفاعلين فلا إقصاء ولا استثناء لأي طرف كان إلا من أبى؛ ومفتوح على المواضيع فالكل قابل للنقاش بدون خطوط حمراء، يفضي بنا إلى ميثاق جامع هو عهد وعقد سيضع الأمة على السكة الصحيحة لبناء دول قوية وأنظمة ديمقراطية ومجتمعات مسؤولة.
لن يكون الأمر سهلا، لكنه ليس مستحيلا ما توفرت الإرادة التوافقية الصادقة والنضج السياسي المطلوب.
مطلب البناء الديمقراطي
إذا كانت النخب السياسية تؤمن بأن إحداث إصلاح سياسي جدري بات ضرورة ملحة في بلداننا العربية، فحتما أن هذا الاختيار لن يكون إلا انتصارا لقيم العدل والحرية والكرامة، لن يكون إلا انتصارا للسيادة الشعبية، لن يكون إلا انتصارا للتعددية السياسية والتداول السلمي على السلطة، لن يكون إلا انتصارا للفصل بين السلط وربط المسؤولية بالمحاسبة…. وإن وعاءا قمين به أن يستوعب كل ما سبق وغيره في لحظتنا الراهنة لن يكون إلا الوعاء الديمقراطي.
لقد جربت بلداننا العربية والإسلامية عددا من الاختيارات السياسية التي قد تختلف في أشكالها لكن أغلبها موسوم بطابع الشمولية والاستبداد بما أوصلنا إلى الباب المسدود، ولم تفلح كل محاولات التلميع من روتوشات محتشمة وهوامش ضيقة تقدم على أنها الديمقراطية المطلوبة من التعمية على واقع الاستبداد وانحسار الحريات وخنق الأصوات المعارضة وتحجيم دور النخب… واللائحة تطول.
إن الأعطاب التي ابتليت بها الأنساق السياسية ينبغي أن تدفع المسألة الديمقراطية إلى مرتبة الأولوية في نضالات الشعوب والنخب، ولعل ما مرت به الشعوب العربية في الآونة الأخيرة رغم كلفته الباهظة يجعل من الديمقراطية ليس فقط مطلبا نخبويا ولكن مطلبا مجتمعيا، ينبغي أن تلتقطه النخب السياسية وتصنع منه لحظة مفاصلة مع عهد الاستبداد.
إلا أنه وجب التنبيه إلى ضرورة الوعي بالمراحل السياسية التي يمر منها كل بلد على حدة رغم وجود قواسم مشتركة، فكما أن ثمة بلدانا وضعت نفسها على سكة الانتقال الديمقراطي -ويكاد يكون النموذج التونسي متفردا في الباب-، فثمة بلدان أخرى مازالت على مسافة قد تبعد أو تقصر من تحقيق هذا التحول، والوعي بخصوصية المراحل ضرورة أساسية تؤهلنا للوعي بمستلزمات كل مرحلة وضروراتها وأولوياتها وإلا فإن أي سوء تقدير قد يرجع بنا القهقرى.
وإلحاحنا على المطلب الديمقراطي راجع لـما في الديمقراطية من دروس في تنظيم الخلاف وترتيب تعددية الآراء في نظام تعددية الأحزاب إلى سائر ما تمخضت عنه تجارب أوربا من دراية في هذا المجال شئ لا ننكره ولا نرفضه. الديمقراطية في بعض أهدافها شطرٌ مما بعثنا به. بعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله تعالى. فإذا كانت الديمقراطية تضع حدا للتسلط على العباد فنحن، هبة واحدة، مع كل ذي دين ومروءة لنقول نعم) 4 ، إن الديمقراطية –لِمَن لم يتخذها وصفة جاهزة تستنسخ- هي خير ما وصل إليه الغرب لكيلا يتظالم الناس، ولكيلا تهضم حقوق الناس) 5 ، ولو أن فيها ثلما علق عليه الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله قائلا: لكن الشطر الإيجابي، ما يأتي بعد سلب التسلط ونقض بنيانه، أمر لا تفي به الديمقراطية ولا تعرفه) 6 ، هذا الشطر هو سكوتها عن الحق الأعظم للإنسان حق معرفة الله تعالى وفصامها النكد مع الدين في تعميم متجني لتجربتها مع الكنيسة، وكأن كل دين كنيسة، وهذا ما أكده الدكتور الريسوني حين قال: فحاجة الديمقراطية إلينا وإلى ما عندنا لا تقل عن حاجتنا إليها وإلى ما عندها بل هي أشد. فنحن إنما نحتاجها في اقتباسات وتجارب شكلية وتنظيمية وإجرائية، بينما الديمقراطية بحاجة إلينا لمعالجة بعض آفاتها البنيوية وأدوائها الجوهرية) 7 .
مطلب الالتحام الجماهيري
صحيح أن الربيع العربي ميزته هبات شعبية هزت عروش استبداد جاثم على صدور الشعوب المستضعفة في عدد من البلدان العربية بعد كل ما قيل عن قدرة الاستبداد على تطويع إرادة الشعوب وتدجينها، فخرجت موجات شعبية منتفضة لتسترد زمام المبادرة من أيدي من حكموها بمنطق الأبوية والوصاية والمصادرة. إن قدرة الشعوب على التحمل وتقديم التضحيات في فترات الغضب والفوران لا تضاهى ولا يستهان بها؛ إلا أن هذه الهبات الشعبية ضد الظلم والقهر والتهميش… قد تنفلت وتنزلق في لحظة من اللحظات إلى مهاوي الهرج والفوضى بل العنف أحيانا -والعنف إذا حل بأرض أهلك الحرث والنسل-، وصمام الأمان ضد هذا الانفلاتات لا يتأتى إلا بحضور قوي وفاعل ومؤثر للنخب السياسية مع الشعوب، التحام يحمل هموم الأمة ويدافع عنها وينتصر لقضاياها ويصطف مع مطالبها ويتقدم صفوفها، وإن مما يعطي لهذا الالتحام معنى وبعدا آخر هو ترفعه عن الاستغلال والتوظيف السياسي إلى الاستجابة الطوعية المبدئية بداعي الدين أو بداعي المروءة أو بهما معا.
إن أي محاولة تفتل في اتجاه تعميق الهوة بين الشعوب ونخبها لهي بحق مغامرة غير محسوبة تهدم أكثر مما تبني والمستفيد الوحيد منها لن يكون إلا أنظمة الفساد والاستبداد. وإن على النخب السياسية مسؤولية عظيمة في اتجاه تصحيح العلاقة وتجسير الهوة بينها وبين الشعوب، بعدما كرسته الأنظمة العربية من إعاقة وتعطيل الدينامية التفاعلية بين الشعوب ونخبها وما نتج عنه من أجواء يطبعها الجمود والشك وانعدام الثقة. ومما يزيد الطين بلة أن هذه العلاقة الهجينة قد يردها البعض لحالة العزوف الشعبي عن كل ما له علاقة بالشأن العام وما حالة العزوف تلك إلا تجلي من تجليات الأزمة وتعبير صامت ناطق عن الرفض.
ولئن كان مطلب الالتحام الشعبي مطلبا ملحا في الحالات الطبيعية فإنه في فترة الأزمات يصبح أكثر ملحاحية، فما بالك والأمة تمر اليوم من منعطف تاريخي حاسم يطلب إلى النخبة السياسية ألا تكتفي بالدور الممكن والمتاح ولكن أن تسعى للقيام بالدور المطلوب، تأطيرا للشارع، وتأثيرا في الجماهير وتوعية للشعب، وتعبئة للطاقات، وتوحيدا للقصد والوجهة قولا وفعلا خطبة وخطوة.
إن حركة الشارع تجسيد لحالة من حالات الرفض للواقع والرغبة في التغيير، لكنها مهما بلغ نضجها غير قادرة على إدارة العملية التغييرية، لذا فإن القوى السياسية التي تحمل لواء التغيير تحتاج إلى حركة الشارع كما أن الجماهير التي تريد أن تغير تحتاج لقوى سياسية تقود عملية التغيير، إن كان مع جند الله الطليعةِ سرُّ تربية الإيمان، وكانوا هم أنفسُهم هاجروا تلك الهجرةَ المعنوية في النيات والجهاد، وأشرفت أرواحُهم على مقامات الإحسان، فبوُسعهم أن يدفعوا الأمة، ويتقدموا بها، ويقودوها في هجرتها، من الخرافة، والنفاق في العقيدة، والنفاق الاجتماعي، و«دين الانقياد» للحاكم، والاستقالة من الاهتمام بأمر الأمة، والسكوت والإمساك عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والكسل عن العمل، واستهلاك ما لا نُنْتِجُ، إلى غير هذا من الأمراض الموروثة عن فتنتنا الداخلية، أو المعدية بواسطة الاستعمار والغزو الثقافي الاقتصادي الحضاري. إن مبادرات التغيير التي تتخذها القيادةُ تبقى مولوداً ميتا، أو تعيش كائنا هزيلا، إن اصطدت بأرضية الخمول، ووُكِلَ تنفيذُها «للروتين» الإداري، ولم يَتَبَنَّها الشعب) 8 .
هذا التوافق والتلاحم بين النخب السياسية المدافعة عن أطروحة التغيير وبين الشعوب التواقة لغد أفضل، من شأنه أن يحشر النخب المشتغلة من داخل سياجات الاستبداد في الزاوية، وما أحوجنا اليوم لخلق حالة من الفرز داخل مجتمعاتنا ليس على أساس هوياتي أو طائفي أو عقدي أو إيديولوجي بل على أساس القرب أو البعد من أنظمة الفساد والاستبداد، بما يقوي جبهة الممانعة ويخلق تكثلا قادرا على مجابهة التحديات وصناعة التحول نحو المرحلة الديمقراطية، كمرحلة أولى لصناعة النقلة التاريخية التي تعيد الأمة لمقام الخيرية الموعود.
[2] الشورى والديمقراطية ص 270.\
[3] الإسلام والحداثة ص 324.\
[4] عبد السلام ياسين، العدل: الإسلاميون والحكم ط 3 ص 580.\
[5] عبد السلام ياسين الشورى والديمقراطية ص 23.\
[6] عبد السلام ياسين، العدل: الإسلاميون والحكم ص580.\
[7] أحمد الريسوني، الشورى في معركة البناء ص 168.\
[8] إمامة الأمة ص 89.\