يستمر غليان المدرسة العمومية في شخص المدرسين الذين يتعرضون لهجمة شرسة غير مسبوقة تريد القضاء على البقية المتبقية من كرامتهم ومن صمود المدرسة العمومية من خلال إصدار الحكومة مرسوم النظام الأساسي، أو قل نظام الإهانة والمآسي الذي إن كان من ورائه من هدف عند المتابعين، فالقضاء على المدرسة العمومية وتوجيه البوصلة نحو خوصصة التعليم وتكريس دونية المدرس.
ابتداء لا يخفى على كل ذي لب المكانة الاعتبارية المميزة التي ينبغي أن تكون لسدنة الحروف وبناة المعرفة ومنوري العقول ومشيدي صرح الأمم، وأي مجتمع يحترم نفسه ويسعى إلى أن تكون له مكانة بين المجتمعات إلا ويجعل من أولوياته العناية بالتعليم على مستوى المناهج، ومن خلال توفير البيئة التعليمية التعلمية الملائمة، والرفع من المردودية، والعناية بالمدرس وتكريمه.
إلا أن هذه الوضعية مرتفعة في واقعنا المغربي على الرغم من توالي مسمى مسلسل الإصلاحات التي لم تتحقق، ولم تسهم قي إنقاذ المدرسة العمومية من واقع الانتكاس والتردي الذي كان نتاجا لسياسات ارتجالية أحادية لم تشرك الفاعلين التربويين إن على مستوى التشخيص أو التفعيل أو التنظير للحلول الملائمة، فكان من نتائجها على الرغم من تعدد مشاريع الإصلاح للمدرسة العمومية تكريس المزيد من التقهقر على مستوى الواقع وضعف المستوى العام وتراجع مركز التعليم المغربي على المستوى الإقليمي والقاري والعالمي، مع مزيد من إرهاق المدرس والإساءة إلى وضعيته الاجتماعية وقيمته الاعتبارية حتى صار عرضة للتنمر وموضوعا للتنكيت والسخرية.
ولئن كان إرساء آليات النهوض بالمؤسسة التعليمية ماديا ومعنويا من مداخل الإصلاح، فإن هذا المقوم لم يعط ما يستحقه من الأهمية في نظام المآسي الذي أخرج المدرسين من حجرات الدرس من أجل أن يرفعوا الصوت عاليا أن كفى من الاستهانة بقطاع التعليم، وكفى استخفافا بالمدرس، وكفى تقزيما لأدوار المدرسة ولسائر الفاعلين التربويين.
وإن كان المدرسون يطالبون بإسقاط نظام المآسي، فلمؤاخذاتهم الجمة عليه، سأقصر الحديث في هذه العجالة عن بعضها على المستوى المادي والمعنوي وإن كان التداخل واضحا بين المستويين.
على المستوى المعنوي:
غياب الآلية التشاركية في تنزيله مما يعني الاستهانة بالمدرس وإقصاءه من المشاركة في اتخاذ القرارات التي تهمه: إذ على الرغم مما صمّت به الوزارة الآذان من دمقرطة خطة الإعداد والتنزيل من خلال إشراك الفاعلين في الميدان، فإن الواقع يفضح التدبير الأحادي لهذا المسار على مستوى الإعداد والتنزيل مما يجعلنا أمام وضعية تغييب لفئة واسعة من المجتمع ورهنها بمخرجات نظام لم تسهم في إنجازه، فضلا عما ثبت من التكتم عليه في دهاليز القرار إلى حين استغلال ظرفية الدخول المدرسي والزلزال الذي ضرب البلاد من أجل تمريره ثم إخراجه في الجريدة الرسمية.
إهدار كرامة المدرس: إذا كانت الوزارة قد أخذت على عاتقها بناء نظام لتدبير المسار المهني للمدرس محفز ومثمن، فإن نظام المآسي قد أقر المزيد من إهدار كرامة الأستاذ من خلال:
· نعت المدرسين بالموارد البشرية وفي ذلك ما فيه من التشييء والتسليع.
· المقاربة الزجرية من خلال تخصيص المدرس بترسانة من العقوبات المزلزلة؛ إذ جعل النظام المشؤوم الأستاذ أمام وضعية عقابية لا يقبل بها إلا ذليل أو معتوه، تقارب الصفحتين من النظام في حال إخلاله بمهام ليست أصلا من واجباته.
فمن المعلوم أن للمدرس دائما حضورا وازنا في تنشيط الحياة المدرسية بتلقائية أغرت الوزارة المعنية بالقطاع إلى ترسيمها والمعاقبة عليها في حالة الإخلال، في الوقت الذي نجد أن من المعلوم عند العقلاء أن البون شاسع بين الفرض والتطوع، فالفرض واجب والتطوع مندوب، ولا واجب على الأستاذ يساءل عنه إلا مهامه التربوية التعليمية.
· ربط الترسيم بآليات التقييم للمردودية: من الطبيعي أن يؤدي كل موظف مسؤولياته على النحو المرجو يبرهن من خلاله على كفاءته وقدرته على أداء الواجب بشكل مسؤول، لكن ربط الترسيم بالمردودية تهديد في الممارسة الوظيفية إذ “إذا كان النظام الأساسي يراهن على التحفيز والتثمين، فإن المقاربة المعتمدة تكاد تتوجه نحو خلق نوع من التمييز بين الأطر والمؤسسات واستنساخ تجارب فاشلة كمدرسة الريادة التي تذكر بمدرسة النجاح والتميز. ولما يتم الحديث عن مسألة التحفيز المهني يتم قصر المنحة المالية الموعودة على الفريق التربوي بمؤسسات الريادة، ووفق شروط منها تتبع الأثر على التعلمات، وتقديم الدعم خارج الحصص الرسمية” 1.
· تخصيصه بآليات التحفيز المذلة: فإذا كان التحفيز من أهم عوامل الارتقاء في العمل والزيادة في المردودية والتشجيع على المزيد من بذل المجهود للارتقاء بالوظائف، فإن هذا المعطى قد غيبه نظام الشؤم والعار حينما جعل نصيب المدرس منه بطاقة تقديرية.
· إخضاعه لنظام السخرة: من خلال ترسيم التعاقد في أفق تعميمه على كل القطاعات، ليجد المدرس نفسه عبدا منزوع الكرامة في نظام إقطاعي ينظر إلى التعليم بعقلية السوق التي توازن بين الربح والخسارة، وتقلل المصاريف بمقابل الرفع من الأرباح، ولعل هذا من المقاصد الكبرى لخطة التعاقد التي فرضت على فئة واسعة من رجال التعليم ونسائه. ومن تبعات هذا الوضع ومظاهره؛ اللااستقرار الذي يهدد الجسم التعليمي من خلال خلق إطار التعليم الثانوي الذي من واجبه العمل في السلكين معا الإعدادي والتأهيلي.
· الحد من حريته في التنقل: تحت مبرر ضمان الاستقرار البيداغوجي مما من شأنه أن يؤكد نظام الاستعباد الآنف الذكر، ويحرم فئة عريضة من موظفي القطاع من الالتحاق بأهاليهم بعد مدة من النفي ذاق مرارتها أغلب المدرسين والمدرسات، لكن وهم حينئذ على أمل للالتحاق متى توفرت شروطه.
كما يعتبر النظام المشؤوم الحرمان من الانتقال عقوبة بديلة عن خطأ مهني، ما من شأنه المزيد من تأزيم الأوضاع الاجتماعية الهشة للعديد من الأسر وتحميلها وزر خطأ قد يكون في الغالب غير مقصود.
إخضاع القطاع لإملاءات دولية ولاختيارات صندوق النقد الدولي: لا رجاء في نجاح أية خطة إلا إذا نبتت في تربة الحاجة الوطنية، وشارك في بلورتها من يستشعرون قيمتها في الإجابة عن التحديات المهنية والاجتماعية والتربوية التي تواجههم، لا أن تكون مجرد تطبيق لاواعي لأجندات غربية، أو تقليد أعمى لنظم دخيلة لا تتلاءم وواقعنا.
تمرير الفئوية وشرخ الجسم التعلمي: من خلال خلق فئتين داخل الجسد التعليمي: موظفو القطاع، وأطر الأكاديمية المفروض عليهم التعاقد، كلاهما من أطر التربية والتعليم نعم، لكن بوضعيتين اجتماعيتين مختلفتين وحقوق متفاوتة.
التغني بجودة التعليم دون توفير العدة اللوجستيكية الملائمة لتحقيقها: إذ الملاحظ أن منطوق النظام قد تعهد بتوفيرها “بحسب الإمكانات المتاحة”.
من المؤاخذات على نظام المآسي على المستوى المادي:
زيادة المهام من غير تعويض عليها: ومن ذلك فرض المشاركة في أنشطة الحياة المدرسية، المشاركة في صياغة أدوات التقويم، المشاركة في تنظيم الامتحانات والمباريات، مسـاعدة المتعلمـين على تجاوز صعوبات التعلم بعد تشخيصها، فرض التواصل المنتظم مع أولياء الأمور في إطار المواكبة المستمرة لمسار أبنائهم الدراسي… وهي لا شك أمور يقوم بها المدرس طيعة بها نفسه من باب تجويد عمله، وإتقان مهامه والمشاركة في تجويد الحياة المدرسية وإشراك الأسرة في تتبع تعلم الناشئة ومعالجة الاختلالات على مستوى اكتساب التعلم، وإيجاد حلول لبعض مشاكل المتعلمين الاجتماعية…
فرض مهمات جديدة يقتضي منطق التعويض عليها، الشيء الذي غيبه نظام المآسي.
ساعات العمل غير المحددة: الأصل أن ساعات العمل المحددة للمدرس تختلف بحسب سلك تدريسه، ومع زيادة الساعات التضامنية 2 لكل سلك يكون مجموع ما يدرسه أستاذ السلك الثانوي التأهيلي واحدا وعشرين ساعة مقابل أربع وعشرين للسلك الإعدادي وثلاثين ساعة للتعليم الابتدائي.
في الوقت الذي صار من لوازم مطالبات المدرسين رفع ساعات التضامن لارتفاع أسبابها، تجنب نظام المآسي الحديث عن ساعات العمل المحددة لكل سلك وترك للسلطات مهمة تحديدها وفق الحاجة.
تقنين سن ولوج قطاع التعليم: من خلال تحديده في سن الثلاثين، وحرمان فئات واسعة منه تحت ذريعة تجاوز السن القانونية، وفي ذلك ما لا يخفى من التضييق على الباحثين عن فرص العمل في ظل استشراء البطالة وتقهقر الأوضاع الاجتماعية عامة، كما لا يخفى ما في ذلك من المخالفة الصريحة لنص الدستور المغربي الذي ينص على حق كل مغربي في الوصول إلى الوظائف العمومية حسب الاستحقاق على وجه المساواة، بمعنى أن من توفرت فيه جملة من المهارات والقدرات المؤهلة لولوج الوظيفة العمومية فله ذلك دون اعتبار السن.
انعدام العدالة الأجرية: تضمّن النظام الأساسي لعدة قطاعات زيادات مهمة في الأجور بالإضافة إلى جملة من الامتيازات المادية الأخرى، واستثني رجل التعليم من هذه الزيادات على الرغم من الارتفاع الصاروخي للأسعار، وغلاء المعيشة، مما يزيد من تأزيم الوضعية الاجتماعية للمدرس.
لعل الدولة بهذه الإجراءات تعالج إشكالات الاختلاسات والمديونية المرتفعة من خلال تقليص الكتلة الأجرية لقطاع تعتبره أصلا قطاعا غير منتج بحساب السوق لا بحساب التأثير في حياة الأمم، وتقدم الأوطان، وبناء العقول، وغرس القيم.
قصر المنح المادية على فريق مدرسة الريادة.
ضعف الميزانية المخصصة للتعليم: وإن تغنى المتغنون بميزاية 9.5 درهما المرصودة للتعليم والتي لم ينل منها المدرسون إلا عدد الصفر، فإن هذه الميزانية تدل على المرتبة التي تجعلها الحكومة لقطاع حيوي جدا، كما أنها مؤشر واضح على عدم مركزية القطاع في سياسة الحكومة الحالية وسابقاتها.
ففي الوقت الذي نجد فيه أن الدول المتقدمة ما حازت درجات الصدارة إلا بعنايتها بالتعليم والبحث العلمي، نلمس هذه الانتكاسة في واقعنا، وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن دولتين مثل اليابان والصين تنفقان بسخاء على التعليم، وأكثر منهما الولايات المتحدة الأمريكية التي حصلت وزارة التعليم فيها سنة 2022 على زيادة تمويلية بنسبة 40,8% ما من شأنه رفع موازنتها إلى 102,8 مليار دولار.
أرقام قد تبدو خيالية على منظومة وطنية لا تخص التعليم إلا بالفتات الذي يتبعه الكثير من المن والأذى.
ختاما، فإن أي نموذج تنموي لا يجعل من أولوياته العناية الفعلية بقطاع التعليم، فإن مصيره الفشل وتكريس المزيد من الاحتقان في المشهد المجتمعي العام، وتصاعد وتيرة الاحتجاجات والمزيد من إهدار زمن التعلم والمزيد من الرفض الأستاذي للوصفات الجاهزة، ويتحمل مسؤولية كل ذلك الدولة بسياستها الفردانية المستحوذة المغيبة للمدرس في التنظير والتقرير.
الإصلاح المرجو ينبغي أن ينطلق من احتياجات القاعدة الأستاذية الممارسة للفعل التربوي، لا ممن ينظر إلى الواقع من مكتب وثير تغيب عن ناظره نتوءات الواقع وإكراهاته المتنوعة وظروفه المتشابكة.
كما أن تعدد محاولات الإصلاح بذات النهوج وذات الوجوه وبدون تأثير يذكر ولا مخرجات عدا محاولة الإصلاح ثانية من داخل الإصلاح، كانت كافية للتوقف عن إهدار المال العام بميزانيات لم تؤت أكلها بل زادت في تأزيم الوضع العام، ولم تتمكن من تحقيق التحول الإيجابي في المدرسة العمومية.
ولئن كانت السياسة التعليمية لا يمكن أن تنجح بمعزل عن السياقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المتوازنة في البلاد، فإن أي إصلاح فيها لا يأخذ بعين الاعتبار تصحيح الأوضاع الاجتماعية وإخضاع المحاولات الإصلاحية للنقد البناء والتقويم الجاد وفق مقاربة شورية تستدعي كامل الفرقاء التربويين، لن يكون إلا ترسيما للفشل، ودقا لآخر مسمار في نعش القطاع، وتأجيجا للشارع العام، وإيذانا بشلل مزمن سيصيب المدرسة العمومية.
[2] ساعات مجانية تطوعية تعود للثمانينات من القرن الماضي حيث طلب الراحل الحسن الثاني رحمه الله تعالى من المدرسين التطوع بها لتدعم الدولة بميزانيتها الأقاليم الجنوبية، على أن ترفع متى زالت أسبابها المتمثلة في جملة من الإكراهات الاقتصادية التي كان يعيشها المغرب.