إن الناظر في النظرية المنهاجية التي شيدها الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله، لا يصعب عليه الوقوف على أوجه التكامل المعرفي، فقد جاءت هذه النظرية متوازنة في أصولها، متكاملة في مقاصدها، متناسقة في أجزائها وكلياتها.
ولم تكن النظرية المنهاجية لتحقق هذا التكامل لولا ارتكازها على أساس ثابت، وجوهر أصيل يشكل مقصدا شرعيا دائما وهو الجمع بين الخلاص الفردي والخلاص الجماعي؛ يقول الأستاذ ياسين رحمه الله: “المسلمون بحاجة اليوم لاكتشاف المنهاج النبوي كي يسلكوا طريق الإيمان والجهاد إلى الغاية الإحسانية التي تعني مصيرهم الفردي عند الله في دار الآخرة، وإلى الغاية الاستخلافية التي ندبوا إليها ووعدوا بها متى سلكوا على المنهاج واستكملوا الشروط.” 1 جاعلا من مصدري الهداية والتوفيق القرآن الكريم والسنة الشريفة مرجعين أساسين ومصدرين لا غنى عنهما لاستكشاف طريق ومنهاج تحصيل هذين المطلبين العزيزين، والغاية الشريفة نيل رضى الله وإرادة وجهه.
وإن تشكل الاقتناع بضرورة وأولوية نظرية منهاجية معرفية عملية متكاملة لدى الإمام رحمه الله راجع في اعتقادنا إلى سببين رئيسين:
الأول: ما اطلع عليه من فكر ومعرفة من سبقنا من علماء المسلمين، هذه المعرفة المهمة لكن المشتتة التي تفتقد إلى التكامل، بل إنه كثير ما وقعت صدامات بين المشتغلين في المعرفة في بلاد المسلمين، ولعل هذا الصراع والصدام لا تزال الأمة تدفع ثمنا باهظا من وحدتها ومحبتها وتلاحمها في الانتصار لأحد أطرافه. وما رآه من تأثير للأفكار الهدامة الواردة على بلاد المسلمين قديما وحديثا.
الثاني: دراسته للواقع المرير الذي تعيشه الأمة بعد توالي انتقاض العرى، ووهن الرابطة بين مكوناتها، وتشتتها المعرفي والسياسي وتناقض المصالح، لما لم تعد لها من مقومات الوحدة الجامعة، ومؤسسات المنعة ضد الوهن والاستبداد والاستضعاف ما يعصمها من توالي ضربات الأعداء، وتداعي أصحاب المطامع في مقدرات الأمة وخيراتها. ولذلك فإن قضية جماعة المسلمين ورابطتها شغلت حيزا كبيرا من جهد الإمام واجتهاده رحمه الله، وكان لدى الإمام وعي بأنه لا انجماع لشتات جماعة المسلمين إلا بنظرية منهاجية على أثر الرسول صلى الله عليه وسلم متكاملة أصيلة، ومستوعبة للواقع المستجد وخصائصه، وتحديات تغييره.
ولم يكن لتكتمل الرؤية عند الأستاذ ياسين رحمه الله لولا جهد الليل والنهار، في القراءة والكتابة والتأليف: تأليف الكتب وتأليف النفوس والقلوب، فجاء جهاده متكاملاّ، ويهمنا هنا أن نقف عند الجهد الذي بذله الإمام في تشييد نظرية تغييرية جديدة مؤسسة لغد الإسلام، ومن الملاحظات التي لا تخطئها العين في قراءة كتب الإمام هي جمعه بين خصائص أساسية مهدت للتكامل المعرفي كخاصية مميزة لفكره.
المبحث الأول: خاصية التباعد المعرفي
وقد تم تطبيق هذه الآلية من خلال إقامة التباعدات وتحديد المسافات الضرورية بين أنواع من المعارف بعد دراستها دراسة معمقة وفهم سياقات تشكيلها، واستيعاب غايتها، وعموما يمكن رصد هذه الخاصية من خلال تعامله مع نوعين من المعارف:
– المعارف الواردة من بعيد والتي حاولت فرض نفسها على أبناء الأمة، وقد ناظر الإمام هذه الأفكار وأشتغل على ما أثلته من مفاهيم كالديمقراطية والحداثة والليبرالية والتغريب والعلمانية والماركسية والقومية… وقد وقف موقف المتحسر من هيمنة وقيادة هذه الأفكار لعقول أبناء الأمة؛ فــــ“المسلمون حاملو دعوة الإسلام قابعون في زاوية متواضعة من زوايا التاريخ المعاصر والواقع الحضاري المعاصر رغم أعدادهم الكبيرة. أفكار أخرى تدير الفكر البشري، وقيم، وعلوم، وتكنولوجيا.” 2
– المعارف الناشئة عند المسلمين في الماضي أو الحاضر والتي ظلت معارف جزئية أو اختزالية أو مسايرة لإرادة الحكم العاض والجبري، بعيدة عن روح وجوهر المعرفة الإسلامية الحقة، فنجد الفقه الفروعي المنحبس، والتصوف المنحرف، والسلفية المتزمتة، وإسلام الدروشة، والإسلام الحركي الأجوف، والإسلام الفكري الغافل عن الله. ولذلك “لابد لنا من إرساء قواعدنا على مكين الكتاب والسنة لأن العاطفة المجنحة خبال، ولأن فقه سلفنا الصالح الذين عاشوا رهائن مقهورة في قبضة العض والجبر لم يخلفوا لنا إلا نثارا من العلم لا يجمعه مشروع متكامل” 3
المبحث الثاني: خاصية التفاضل المعرفي
لقد نظر الإمام بعين ناقدة فاحصة إلى معرفة الأغيار ووقف مع ما فيها من جوانب القوة المرتبطة بالعقل المعاشي المشترك، فتصرف بعقلية المؤمن الباحث عن الحكمة والجدير بها حيث وجدها، كما قلب معرفة المسلمين على وجوهها، ففاضل بين المعارف وانحاز لكل معرفة مرتبطة بالكتاب والسنة، وحيث وجد اجتهادا أصيلا تبناه، وحيث وجد اجتهادا لم يبلغ مداه اجتهد لإكماله حتى يبلغ مداه. لقد تحدث الإمام رحمه الله عن بعض مزايا الغرب والتي أعطيت لها الأهمية الكبرى في معارفهم ونظرياته، فـــــــ“من مزاياهم الحرية، ثم الحرية، ثم الحرية لا يعرفون العبودية لله لأنهم كفار وجاهلية، لكن الاستبداد البشري تحصنوا منه” 4 وعطفا على ذلك تناول الديمقراطية منتقدا اللائكية وهي ربيبة الديمقراطية، لكن مع ذلك أشاد بالآليات الديمقراطية من التداول على السلطة والحوار وقبول الاختلاف ورفض العنف. أما عن المعرفة الإسلامية فقد نبه الإمام إلى ضرورة معرفة “من أين نبدأ الفتل من جديد لا استعمالا للأنقاض واستنادا إلى سلطانها المعنوي لما اكتسبته من شرف الانتماء إلى تاريخ المسلمين، لكن بمادة جديدة خالدة لا تبلى وهي مادة القرآن وعلى مثال سام لا ترقى إليه المهانة هو مثال السيرة النبوية العطرة” 5
المبحث الثالث: خاصية التكامل المعرفي
في كتابات الإمام رحمه الله مفاهيم تعبر أكثر عن التكامل المعرفي الذي يقدم صورة حية لحركة الفرد المؤمن، والجماعة المؤمنة المجاهدة في سعيها نحو الخلاص الفردي والجماعي.
-الفقه الجامع: الفقه الجامع الذي يعم في نظرة واحدة الدعوة والدولة في علاقتهما الأولى على عهد تأليف الجماعة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، ويسعى لخلاص الفرد وخلاص الأمة، ويخلق التكامل في القول والفعل في حياة المسلمين أفراد وجماعات، ويحيي في نفوس المسلمين هم آخرتهم وهم دنياهم وهم معاشهم ومعادهم.
-الاجتهاد الجماعي: الذي يحقق التجديد المطلوب في الدين والإيمان، وفي تعامل الأمة مع حاضرها واستشرافها لمستقبلها الموعود، فقد فهم الإمام اجتهادا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حول بعث الله لهذه الأمة من يجدد لها دينها أن هذه “المن” تحتمل أن يكون فردا أو جماعة.
-وحدة التصور: الذي تتوقف عليه أي نظرية عملية تغييرية؛ اتفاق على المقاصد والغايات الكبرى الكلية، وعلى مراحل البناء ووسائل العمل.
– العقد الجامع/الميثاق: الأمة شتات ولابد من عقد جامع، بمعنى أن المشاركة العامة لأبناء الأمة في بناء مستقبل وحدتها وكرامتها شرط ضروري ولا سبيل لتحقيقه إلا بفكرة واضحة وميثاق جامع.
-وحدة بالقوة، وحدة بالمحبة: المحبة واللاعنف والرحمة القلبية السارية من قلوب المحسنين، التي تجمع إليها قوة في الحق لا تخاف في ذات الله لومة لائم، فلا فائدة من معرفة تشتت الأمة وتكفر هذا وتبدع ذاك وتستعدي هذا وتستبعد ذاك، فمن أوجه التكامل المعرفي أن تقود المعرفة إلى توحيد الأمة على مشروع جهاد وإقامة للدين.
هكذا يتبين أن للتكامل المعرفي في فكر الإمام المجدد رحمه الله مسارات بناء وتشكل، وتجليات تناسق وتكامل ووحدة، تجعل منه ومن فكره نظرية متكاملة تقترح على التاريخ مشروع العمران الأخوي، والمعول عليه أن ينهض الباحثون وأنصار هذه النظرية التغييرية الفريدة بمزيد من البحث وتوضيح هذه المعالم للأمة، قولا وفعلا، حالا ومقالا، كما كان الإمام رحمه الله، فإنه لم يكن يقول كلمته ويمضي بل قول وعمل. وهذا أعمق تجل من تجليات التكامل في فكر الإمام رحمه الله.