الهجرة، قبل الفتح
تنفتح سنة هجرية جديدة مع ذكرى الهجرة النبوية المتجددة، حيث خرجت الدعوة الوليدة من قريةِ ظلمٍ وعداءٍ وتحركت بكاملها إلى مدينةِ عدلٍ وولاءٍ… ماذا عسى هذه الذكرى العظيمة أن تعلمنا من دروس نستشرف بها مستقبل أمتنا؟
رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ يُكْثِرُونَ سَوَادَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رَسُولِ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَيَأْتِي السَّهْمُ يُرْمَى بِهِ فَيُصِيبُ أَحَدَهُمْ فَيَقْتُلُهُ أَوْ يُضْرَبُ فَيُقْتَلُ، فَأَنْزَلَ اللهُ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ (النساء 97).
– يتضح جليًّا من خلال الخبر أن تكثير سواد الموحدين مع دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت إحدى أهداف الهجرة.
– كما نفهم أن المتخلف عن الهجرة كان بالمنطق القرآني يُعد من الظالمين لأنفسهم ولو سبق له إسلام. أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَدْ أَسْلَمُوا، وَكَانُوا يُخْفُونَ الْإِسْلَامَ، فَأَخْرَجَهُمُ الْمُشْرِكُونَ مَعَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَأُصِيبَ بَعْضُهُمْ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: هَؤُلَاءِ كَانُوا مُسْلِمِينَ فَأُكْرِهُوا، فَاسْتَغْفَرُوا لَهُمْ؛ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (النساء 97) فَكَتَبُوا بِهَا إِلَى مَنْ بَقِيَ بِمَكَّةَ مِنْهُمْ وَأَنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُمْ فَخَرَجُوا، فَلَحِقَ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ فَفَتَنُوهُمْ فَرَجَعُوا، فَنَزَلَتْ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ (العنكبوت 10)، فَكَتَبَ إِلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ فَتَحَزَّنُوا، فَنَزَلَتْ: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينِ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِمَا فُتِنُوا الْآيَةَ، فَكَتَبُوا إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ فَخَرَجُوا فَلَحِقُوهُمْ فَنَجَا مَنْ نَجَا وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ.
– الخبر التالي يضعنا أمام نموذج للهجرة هي واجبة في حق المسلمين إلا من ليس لهم حيلة أو سبيل.
– وفي حق المؤمنين جاءت الهجرة “في سبيل الله”، يقول تعالى: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً (النساء 100).
– أما في حق المحسنين، فالهجرة تنطلق من بيت العبد إلى “الله ورسوله” ليس إلى “المدينة” ولا “في سبيل الله” وإن كانت متضمَّنة، يقول تعالى: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (النساء 100).
– فأهمية الهجرة، بهذا المعنى، تبرُز لكونها تجمع بين عنصرين: فهي أولا، خروج وهجران لكل ما سوى الله ورسوله من مال ومناصب وأهل وولد وبلد، ثم هي ثانيا، وفي نفس الوقت تجمعٌ لسوادِ الدعوة في زمن مصيري، زمان التهديد بالزوال النهائي. عنصران إذن: الأول مصيرُ عبدٍ فرد والثاني مصيرُ أمّة.
– لذلك، فعندما تتمكن الدعوة في “مدينة النصرة” أو بالمصطلح المعاصر: “تُوفق بالسّند الشعبي”، يكون قد أتاها الفتح ولذلك “لا هجرة بعد الفتح”، لأن العنصر الأول “أي التهديد بالزوال” لم يعد قائما في حياة الأمة، لكن على طول حياة العبد يبقى قائما العنصر الثاني: “الخروج إلى الله ورسوله”، لذلك قال عليه السلام: “ولكن جهاد ونية” (رواه مسلم).
ولكن، جهاد ونية
لكل هذه المعاني، وغيرها كثير، بدأ تاريخ المسلمين من حدث الهجرة وليس من غيرها… وعلى من يعمل لدورة تاريخية جديدة أن يولي أهمية كبيرة لمعاني الهجرة.
تحت أنوار هذه المعاني الربانيةِ المستمدةِ من مشكاة المنهاج النبوي، نتفكر في التحولات ونحلل المآلات بعينين، عين تتفكر في “القدر الغالب” وما يفعله مكر الله في القوم المستكبرين الذين أعماهم مكرهم عن فهم درسِ التاريخ، وعين ثانية تحلل “ما كسبت أيدي الناس” لتستكشف عوارَ مخططاتِ المفسدين الذين انتشوا بنجاحٍ مؤقتٍ عن مصيرٍ دائمٍ.
لا نشك للحظة، ولا ينبغي لنا ذلك، أن الفتح آت لهذه الأمة وأوان مجيئه قد اقترب لكن، ينبغي أن نستقبله بالكيفية التي اقترحها علينا الإمام المرشد رحمه الله، حيث قال في كتابه “سنة الله”: إنّ الخلافة الثانية وعد موعود غير مخلوف، ومن سنة الله ورسوله أن تنشأ كل ناشئة على التدرج، وفي ميدان التدافع بين الناس، وعلى مرأى ومسمع من العالم، وبآلياتٍ أنفُسية وآفاقية تبدو مشتركة حكمها على المجتمعات غَلّاب) (ص: 305).
هذه مفاتيح سنة الله الغالبة:
– هدف استراتيجي هو الخلافة الثانية بمنهاجها وشروطها، لا نحيد عنه.
– الفتح لا يجيء إلا بالتدرج.
– الفتح لا يجيء إلا في ميدان التدافع.
– الفتح لا يجيء إلا على مرأى ومسمع من العالم، وبوسائل غير إعجازية، فلا ننتظر خرقا للعادة.
عندما نقول “لا ننتظر خرقا للعادة” فهذا لا يدخلنا ضرورة في العقلانية المذهبية؛ لأننا نقرر، كما تعلمنا في المنهاج النبوي، أن العطاء والتوفيق الإلهي يتنزل على المجاهدين لكنه يأتي تدريجا حتى لا تكاد تُرى فيه وجها لإعجازٍ. وفي هذا السياق نقرأ خبرا صحيحا أخرجه البخاري وغيره عن مسروق قال: “إِنَّ قُرَيْشًا لَمَّا غَلَبُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ قَالَ: “اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ” فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ أَكَلُوا فِيهَا الْعِظَامَ وَالْمَيْتَةَ مِنْ الْجَهْدِ”…
المفتاح الثاني، هو سنة التدافع، وها هنا يجب أن نقرر أمرين جوهريين: الأول: كيف يتم التدافع؟ والثاني: مع من تتدافع الأمة؟
يجب أن نفرق، أولا، بين التدافع كفعل ذاتي والانفعال كرد فعل موضوعي، بمعنى أن التدافع لا يكون دائما دفاعيا فالمبادرة يجب أن تمتلكها الأمة وليس خصومها أو أعداؤها؛ يقول الله تعالى: قل جاء الحق وزهق الباطل (الإسراء 81). لم يقل “جاء النصر” لأن النصر من عند الله، أما الحق فيحمله أهله، وكلما تخلّفوا عن مساحة ملأها الباطل وحيث ما جاؤوا ذهب الباطل، بل زهق؛ قال صاحب لسان العرب: زهَقَ الشيءُ يَزْهَقُ زُهوقاً فهو زاهِقٌ وزَهوقٌ، بطَل وهلَك واضْمَحَلّ). مرة أخرى تتبعنا سنة التدرج: ابن منظور جاء بثلاث مرادفات لكلمة الزهق القرآنية “بطَل وهلَك واضْمَحَلّ” وهي لا تعني شيئا واحدا بل تحمل تدرجا في قيمة النقص، بهذا المعنى: يضمحل الباطل… ثم يبطُل… ثم يهلِك، وذلك بشرط الإصرار من أهل الحق في ساحة التدافع.
هذا أولا أما ثانيا، فيجب التنبيه إلى أن المساحات التي يملأها الباطل متعددة، لذلك لن تكون حركة الأمة التدافعية مجدية إن كانت خطية، فينبغي أن تأخذ اتجاهات تدافعية متعددة تعدد الكفاءات التي هي كامنة داخل اللأمة وتنتظر رجال التربية والتنظيم ليوجهوا الرجل المناسب إلى المكان المناسب دون تفضيل ثَغْرٍ على آخر سوى بمقدار الإمكانات والاستعدادات الشخصية، لكن في إطار مخطط منسجم ومنسق الخطوات.
فإن المُنْبَتَّ لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى
وبعد ذلك من الواجب علينا، ونحن مقتنعون بسنة التدافع، أن نحدد خصمَ الأمة وعدوها بدقة، خاصة ونحن نشاهد اختلاط الأوراق على فصيل من الحركة الاسلامية تلقّف الحكم بسرعة وانتُزع منه بسرعة بحيث لم يترك له مجال ليتحسس طبيعة هذا البهموت، فسماه مرة الدولة العميقة ومرة أخرى بجمهورية الضباط… وهكذا.
بعضُ الجواب سيأتي من مهد الديمقراطية، اليونان، البلد الذي أصبح يعاني أزمات مالية واجتماعية متتالية لعل أخطرَها أزمة الجوع؛ نعم، فلقد اضطر الناس هناك إلى زرع مساحات خضراء وحدائق عمومية للتغلب على النقص الحاد في الطعام؛ واستفاقوا بفعل هذا الجوع من حلم جميل “اسمه الديمقراطية” ليكتشفوا أن بلادهم التي عَلّمت الغرب مبادئ الديمقراطية، قد بيعت للأبناك الكبرى مقابل مليارات لا تكفي لتطهير الفساد الذي خلفه رجال السياسة هناك. اكتشف اليونانيون أن بلادهم يُقَرَّر لها من داخل أروقة المال في فرانكفورت وواشنطن فتعرفوا على طبيعة نظامهم وسموه باسمه الحقيقي “سينوقراطية” أي السلطة الأتية من الخارج.
بعد اليقظة الشعبية لم يعد المواطنون هناك يطالبون فقط بالحقوق الاقتصادية، بل صاروا ينتظمون في مجموعات الأحياء وفدراليات المدن ليستردوا “سلطة الشعب” ويمارسوا الديمقراطية المباشرة كما أثل لها آباءهم الفلاسفة قبل 2500 عام. من يجرؤ في الغرب أن يعيّر هذا الرجوع بالماضوية أو الرجعية؟!
ما يقع في اليونان ما هو إلا نموذج تجريبي لما يخطط له أصحاب المال والسلطة الحقيقيون، ولكي نكتشف ما يخطط له أعداء الأمة يجب أن نتعرف على مرشديهم! نعم، فلقد جاء في كتاب عقيدة الصدمة لكاتبة أمريكية صدر في 2007 ما يلي: كان ميلتون فريدمان، المرشد الكبير لحركة الرأسمالية غير المقيدة، والرجل الذي يعود إليه الفضل في وضع نظام الاقتصاد العالمي المعاصر السريع العجلة، من بين أولئك الذين رأوا في فيضان نيو أورلينز فرصة سانحة. فبرغم بلوغه الثالثة والتسعين من العمر، وتدهور صحته، وبعد ثلاثة شهور من انهيار الحواجز والسدود، استجمع “العم ميلتي”، وهو لقب عرف به بين أتباعه، ما يكفي من القوة لكتابة افتتاحية له في صحيفة “وال ستريت”. وقد جاء فيها: “بات معظم مدارس نيو أورلينز حطاما، تماما كما باتت منازل الأطفال الذين كانوا يقصدونها. هذه مأساة. لكنها أيضا فرصة تتيح لنا إجراء إصلاحات جذرية في نظام التعليم).
فريدمان كان يعني بالإصلاحات الجذرية في نظام التعليم: تحويل المدارس إلى أصحاب المال، وفي هذا تضيف الكاتبة: قبل إعصار “كاترينا”، كانت الهيئة المدرسية في المدينة تدير 123 مدرسة رسمية، إلا أنها اليوم باتت تدير أربعا فقط. كما أنه قبل تلك العاصفة، لم يكن هناك في المدينة سوى سبع مدارس خاصة، في حين بات اليوم، يوجد منها 31 مدرسة. كذلك، اعتاد المعلمون في نيو آورلينز أن يمثلوا في نقابة قوية، أما اليوم فقد فسخ عقد نقابتهم وصرف جميع أعضائها البالغ عددهم 4700).
بعد الإعصار اكتشفت الأسر المكلومة الوجه الحقيقي لأصحاب المال وكيف يتاجرون في آلام الناس من خلال نظرية فريدمان المسماة “رأسمالية الكوارث”. وبعد سنة على أخر وصية سياسية له، سيموت فريدمان في أواخر 2006، وسيُنحت له تمثال من طرف مريديه وتلاميذه الذين كانوا رؤساء لجمهوريات عديدة، ووزراء منهم بريطانيون وروس وبولنديون وطغاة من العالم الثالث وغيرهم كثير… وقد حققوا هم وأمثالهم الـ500 الأغنياء في العالم دخلا صافيا يفوق ما جَمَعَه 416 مليون فقير في سنة الأزمة “2008”.
ركزت على جانب أراه ضروريا لفهم الأسباب الحقيقية وراء اضمحلال “الفاعل التاريخي” المغربي منذ عقود، حيث يتفتق مكر أبناء فريدمان عندنا في كل مرحلة على وسائل متجددة من الإخضاع وشراء الولاءات في نفس الوقت الذي يقدّمون فيه ما تبقى من جواهر الاقتصاد الوطني لأولياء النعمة في الخارج للسكوت على المخازي أو لتلميع صورة النظام داخل المحافل الدولية.
المعادلة في المغرب باتت واضحة، سلطة حاكمة تعتمد على ثالوث المال والشرعية الدينية والحكم المطلق وتقوم بتحديد عصبيتها وتجديدها (بالمفهوم الخلدوني). فكلما أينعت ثمرة فاعل سياسي أو نقابي أو جمعوي يتم عصره من مخزونه من الشرعية والمصداقية لضخها في رصيد الاستبداد. بهذه الاستراتيجية تمكن المخزن من الخروج سالما بعد تجربة 20 فبراير، ثم ارتكب خطأً استراتيجيا عندما تسرع في إدماج فاعل جديد قبل نضجه الكامل وفي سياق محلي وإقليمي متحول ما سينعكس على تماسك بنية المخزن ويبرز تناقضاتها الكامنة.
فما العمل؟ والساحة مرشحة لموجة احتجاجية ثانية لأن مجال المناورة بات أضيق وإمكانيات التنفيس باتت ضعيفة؟ العمل لن يكون إلا جماعيا، والتواصل مع الآخر مقدمة ضرورية لأي عمل مشترك قد يكون شكله الإجرائي: جبهة، أو كتلة، أو ميثاق… لكن من الضروري أن يتبلور، بشكل جماعي، تصورٌ واضح حول الهوية الجامعة، والخصم الاجتماعي، وطرق المقاومة والتغيير.
الإشكالات كبيرة ولا يمكن أن نمر عليها مر الكرام حتى لا تفاجئنا الأحداث فنعيدُ تجارب العقود السابقة. العمل جلل، والأمة تريد الأعمال وليس الأقوال، والأعمال بالنيات، ومن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله.