لم يكن حدث الهجرة النبوية من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة حدثا منفصلا معزولا عن مجموع الأحداث والمعاني الإيمانية التي سبقته وقعَّدت له ونظمته في سياق تعبدي جهادي جامع، إذ ليس فعل الهجرة الحسي المتمثل في الانتقال من مكان إلى مكان إلا وجها واحدا من أوجه الهجرة الشاملة والعميقة، ومرحلة واحدة من مراحل الدعوة الدائمة التي تتداخل فيها جملة من الأعمال القلبية والجوارحية والتنظيمية كالصحبة والجماعة والتوبة والنية واليقين.
الصُّحبة “جِماعُ الدِّين كلِّه”
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله (691-751 هـ) في سياق حديثه عن واجب (المعاشرة والمعاونة والصُّحبة): فالواجب عليه (أي العبد) فيها أن يكون اجتماعه بهم (بالخلق) وصحبته لهم تعاونا على مرضاة الله وطاعته التي هي غاية سعادة العبد وفلاحه، ولا سعادة له إلا بها، وهي البر والتقوى اللذان هما جِماع الدين كلِّه) 1 ، ولا يقوم ذلك إلا بـ: محض النصيحة والإحسان ورعاية الأمر… وهذا معنى قول الشيخ عبد القادر قدس الله روحه: (كُن مع الحق بلا خَلق، ومع الخَلق بلا نفْس، ومن لم يكن كذلك لم يزل في تخبيط، ولم يزل أمره فُرطا)) 2 .
فإن شئتَ وصْلَ القوم فاسلُك سبيلهم
فقد وضَحَتْ للسالكين عِيانا
لا هجرة إلا بصحبة
لِمَ كانت الصحبة جماع الدين كله حسب تعبير ابن القيم؟
يجيبنا رحمه الله: فإن العبد وحده لا يستقل بعلم ذلك ولا بالقدرة عليه، فاقتضت حكمة الرب سبحانه أن جعل النوع الإنساني قائما بعضه ببعضه، مُعينا بعضه لبعضه) (ص19) على الهجرة إلى الله ورسوله.
وهي نوعان: هجرة جسدية وتكون من بلد إلى بلد آخر “وليس المراد الكلام فيها”، وهجرة قلبية تتم في القلب وهذه هي المقصودة هنا، وهذه الهجرة هي الهجرة الحقيقية، وهي الأصل، وهجرة الجسد تابعة لها (وهي) فرض عين على كل أحد في كل وقت، وإنه لا انفكاك لأحد عن وجوبها، وهي مطلوب الله ومراده من العباد) 3 .
والصحبة في جوهرها هجرةٌ إلى الله ورسوله واتباع حثيث لرسول الله صلى الله عليه وسلم وانتساب إليه ويقين ثابت بأن السعادة والفلاح في استسلام العبد له والتسليم إليه والانقياد له في كل عِلة في قلبه…وليس هذا مما يحصل معناه بالعبارة، بل هو أمر انشق القلب واستقر في سويدائه، لا تفي العبارة بمعناه، ولا مطمع في حصوله بالدعوى والأماني).
وقد ذكر الإمام البخاري في الصحيح عن الإمام الزهري رضي الله عنهما قوله: “مِن الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم” 4 .
والصحبة القائمة على الهجرة إلى الله وإلى رسوله هي السبب الذي لا ينقطع بصاحبه، وهذه هي النسبة التي بين العبد وبين ربه وهي نسبة العبودية المحضة، وهي آخيَّته (الآخية هي الحبل الذي يثبت في الحائط لتربط به الدابة) التي يَحُولُ ما يحُولُ ثم إليها مرجعه) 5 فهي مربط الفرس. أي جماع الدين.
قال الشاعر:
إذا تقطع حبلُ الوصل بينهمُ
فللمحبين حبل غيرُ مُنقطعِ
وإن تصدَّع شملُ القوم بينهمُ
فللمحبين شمل غيرُ مُنصدعِ
الشرط الأكبر
لذا يوصي العارفون بالله تعالى كل من أراد سلوك طريق الحق الموصل إلى معرفة الله ورضاه بالصُحبةِ والمخاللة، التي روحُها الاعتقاد والتصديق بمعاني الدلالة على الله والإرشاد إليه. قال الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى: مما يجب في حق سالكِ طريق الحق أن يكون له مرشدٌ و مربٍّ ليدلّه على الطريق، ويرفع عنه الأخلاق المذمومة، ويضع مكانها الأخلاق المحمودة، ومعنى التربية أن يكون المربي كالزارع الذي يربي الزرع، فكلما رأى حجراً أو نباتاً مضراً بالزرع قلعه وطرحه خارجاً، ويسقي الزرع مراراً إلى أن ينمو ويتربى، ليكون أحسن من غيره؛ وإذا علمت أن الزرع محتاج للمربي، علمت أنه لا بد للسالك من مرشد البتة، لأن الله تعالى أرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام للخلق ليكونوا دليلاً لهم، ويرشدوهم إلى الطريق المستقيم؛ وقبل انتقال المصطفى عليه الصلاة والسلام إلى الدار الآخرة قد جعل الخلفاء الراشدين نواباً عنه ليدلوا الخلق إلى طريق الله، وهكذا إلى يوم القيامة، فالسالك لا يستغني عن المرشد البتة) 6 .
وفي هذا المعنى يقول ابن عطاء الله السكندري رحمه الله: ينبغي لمن عزم على الاسترشاد، وسلوك طريق الرشاد، أن يبحث عن شيخ من أهل التحقيق، سالك للطريق، تارك لهواه، راسخ القدم في خدمة مولاه فإذا وجده فليمتثل ما أمر، ولينْتهِ عما نهى عنه وزجر) 7 .
وقال أيضاً: ليس شيخك مَنْ سمعت منه، وإنما شيخك من أخذت عنه، وليس شيخك من واجهتك عبارته، وإنما شيخك الذي سَرَتْ فيك إشارته، وليس شيخك من دعاك إلى الباب، وإنما شيخك الذي رَفَع بينك وبينه الحجاب، وليس شيخك من واجهك مقاله، إنما شيخك الذي نهض بك حاله).
شيخك هو الذي أخرجك من سجن الهوى، ودخل بك على المولى).
شيخك هو الذي ما زال يجلو مرآة قلبك، حتى تَجَلَّتْ فيها أنوار ربك، أنهضك إلى الله فنهضتَ إليه، وسار بك حتى وصلت إليه، وما زال محاذياً لك حتى ألقاك بين يديه، فزجَّ بك في نور الحضرة وقال: ها أنت وربك) 8 .
وقال أيضاً: لا تصحب من لا يُنهِضُكَ حاله، ولا يدلك على الله مقاله) 9 .
مثال القرآن
ويشرح ضرورة الصحبة والمصحوب رجلٌ مجاهدٌ من حجم الأمير عبد القادر الجزائري رحمه الله (1222هـ -1300هـ) -وهو من الذين جمع الله لهم الولاية ورزقهم صحبة جامعة- بمَثلٍ من القرآن الكريم: فهذا موسى عليه السلام، مع جلالة قدره وفخامة أمره، طلب لقاء الخضر عليه السلام وسأل السبيل إلى لُقيِّه، وتجشم مشاق ومتاعب في سفره، كما قال:)لقدْ لقينا مِن سفرِنا هذا نَصباً ومع هذا كله لَمَّا لم يمتثل نهياً واحداً، وهو قوله:)فلا تسألْنِي عن شيء حتى أُحدِثَ لَكَ منه ذِكراً ما انتفع بعلوم الخَضِر عليه السلام، مع يقين موسى عليه السلام الجازم أن الخضر أعلمُ منه بشهادة الله تعالى، لقوله تعالى عندما قال موسى عليه السلام: لا أعلم أحداً أعلم مني: [بلى، عبدنا خَضِرٌ] وما خصَّ عِلْماً دون علم، بل عمَّم).
وكان موسى عليه السلام أولا ما علم أن استعداده لا يقبل شيئاً من علوم خضر عليه السلام. وأما خضر عليه السلام، فإنه علم ذلك أول وهلة فقال:)إنَّك لن تستطيعَ معيَ صبرا. وهذا من شواهد علمية الخضر عليه السلام فلينظر العاقل إلى أدب هذين السيدين).
قال موسى عليه السلام:)هل أتَّبِعُك على أن تُعلِّمَنِي ممّا عُلِّمتَ رشداً أي: هل تأذن في اتباعك، لأتعلم منك؟ ففي هذه الكلمات من حلاوة الأدب ما يذوقها كل سليم الذوق).
وقال خضر عليه السلام:)فإنِ اتََّبَعتَني فلا تسْألنّي عن شيء حتى أُحدثَ لكَ منه ذِكراً وما قال: فلا تسألني، وسكت، فيبقى موسى عليه السلام حيران متعطشاً، بل وعده أنه يُحدث له ذكراً، أي: علماً بالحكمة فيما فعل، أو ذكراً: بمعنى: تذكراً).
قلت: وتحذيرا من مزلق خطير قد يقع فيه مريد الحق، وهو السقوط في يد بعض المتمشيخين الذين يدعون لأنفسهم الولاية بالتلبيس والتدليس، ينصح الأمير عبد القادر بطلب الأكمل الأفضل فيقول: … وإنما وجب على المريد طلب الأكمل الأفضل من المشايخ خشية أن يلقي قيادَهُ بيد جاهل بالطريق الموصل إلى المقصود، فيكون ذلك عوناً على هلاكه) 10 .
اسمع نصيحة مُجرِّب
قال سيدي عبد القادر الجيلاني في قصيدته النوادر العينية في البوادر الغيبية) 11 :
وإن ساعد المقدور أو ساقك القضا
إلى شيخ حق، في الحقيقة بارعُ
فقم في رضــاه، واتَّبـع لمراده
ودع كل ما من قبل كنت تسارع
ولا تعترض فيما جهلت من أمره
عليه، فإن الاعتراض تنازع
ففي قصـة الخضـر الكـريم كفـاية
بقـتل غـلام، والكليمُ يدافع
فلما أضـاء الصبـح عن ليل سـره
وسلَّ حساماً للغيـاهب قاطع
أقـام له العـذرَ الكليـمُ وإنه
كـذلك عـلم القومِ فيه بدائعقال الأمير عبد القادر رحمه الله في قصيدته “الرائية” والتي عنوانها: أستاذي الصوفي، (ضمن ديوان شعري متوسط الحجم):
أتاني مُرَبّي العارفين بنفسه
ولا عجبٌ، فالشأن أضحى له أمــر
وقال:
فإني منذ أعداد حجة
لمنتظر لُقياك، يا أيها البـدر
فأنت بُنيّي، مذ “ألسْتُ بربكم”
وذا الوقت حَقَّاَ ضمه اللوح والسطر
وجَـدُّكَ قد أعطاك من قِدَمٍ لنا
ذخيرتكم فينا، ويا حبذا الذخــر
فقبَّلتُ من أقدامه وبساطه
وقال لك البشرى، بذا قُضِيَ الأمر
“حزازة في نفوس كثير من الناس”!!!
قد يقول معترض غليظ الإحساس: هذا كلامُ بدعةٍ: استسلام! انقياد! تسليم! صحبة! شيخ..
يرد الشيخ الإمام ابن القيم رضي الله عنه: فسبحان الله! كم من حزازةٍ في نفوس كثير من الناس، مِن كثيرٍ من النصوص، وبوُدِّهم أنْ لو لم تَرِدْ!! وكم من حرارةٍ في أكبادهم منها، وكم من شجى في حُلوقهم منها ومن مورده!! ستبدو لهم تلك السرائر، بالذي يسوء ويخزي يوم تبلى السرائر) 12 .
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
[2] نفس المرجع، ص21.\
[3] نفس المرجع، ص22.\
[4] رواه البخاري (6/2738).\
[5] نفس المرجع، ص67.\
[6] حجة الإسلام الغزالي، “خلاصة التصانيف في التصوف” ص18.\
[7] ابن عطاء الله السكندري، “مفتاح الفلاح” ص30.\
[8] ابن عطاء الله السكندري، “لطائف المنن” ص167.\
[9] أحمد بن عجيبة الحسني، “إيقاظ الهمم في شرح حكم ابن عطاء الله السكندري” ج1/ص74.\
[10] الأمير عبد القادر، “المواقف” ج1/ص305.\
[11] سيدي عبد القادر الجيلاني، ” فتوح الغيب”، ص201.\
[12] ابن قيم الجوزية، كتاب “زاد المهاجر إلى ربه”، مكتبة ابن القيم، دمشق-حلبوني، الطبعة الأولى 1423هـ/2002م، ص34.\