تحل علينا في هذه الأيام السنة الهجرية الجديدة، وتتجدد بحلولها ذكرى هجرة المؤمنين من مكة إلى المدينة، هذا الحدث الجليل الذي فصل بين مرحلتين مهمتين في تاريخ الدعوة الإسلامية حيث أسس لبناء مجتمع إسلامي جديد بمفاهيم جديدة.
ونحن نستعيد هذه الذكرى ونستحضر تفاصيل الحدث يلزمنا أن نستقرئ النصوص التي موضوعها الهجرة والنصرة لنقف على معانيها وحقيقتها وأبعادها، ونجعلها عبرة نعتبر بها في يومنا وإن بعد الزمن بيننا باعتبار أن الهجرة والنصرة ليستا حركتين تاريخيتين انتهتا ولكن الهجرة والنصرة معناهما عام ومستمر صالح لأن يطبق في كل مكان وزمان. إذ أن معاني القرآن غير متناهية.
في القرآن الكريم نجد الله أثنى على المهاجرين والأنصار وأظهر لنا الأعمال التي قدموها وأهلتهم لهذا المقام، لقد خرجوا من ديارهم وبيوتهم تاركين أموالهم وتجارتهم ومصادر عيشهم وأمتعتهم فرارا بدينهم بعد أن اشتد البلاء عليهم من طرف المشركين الذين أفرطوا في القتل والتعذيب والإيذاء والاستهزاء والسخرية، وقابلوا ذلك بصبر ثابت وعزم عنيد على مواجهة عناء الهجرة ومتاعبها وأخطار طريقها ليسلم لهم دينهم الذي ارتضوه، ونذروا حياتهم في سبيل الله و نصرة رسول الله ساعة العسرة فكانوا من السابقين الأولين، أولئك هم المقربون.
وفي الطرف الآخر نجد الأنصار الذين استجابوا لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآووه وحموه مما يحمون منه ذريتهم ونسائهم، فالنصرة ولاية وإيواء وبذل وعطاء واستعلاء فوق طمع النفوس وشحها قال تعالى: والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويوثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (الحشر، 9).
وكان الجزاء من جنس العمل رزقهم الله رزقا كريما حسنا ووجدوا في الأرض مراغما كثيرا وسعة وبوأهم في الدنيا حسنة وأجر الآخرة أكبر، شهد لهم بالإيمان الحق وقال عنهم: والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم (الأنفال، 75)، كفر عنهم سيئاتهم وغفر لهم وتاب عليهم ورضي عنهم وبشرهم بالرحمة وأدخلهم جنات لهم فيها نعيم مقيم ورفع لهم الدرجات.
وما الذي يطمع فيه العبد من ربه؟ لقد فازوا بالسبق وحق لهم، فهل لنا من نصيب؟
يقول الله تعالى: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم (التوبة، 117).
هم فازوا بالفضل الطليعة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “باب الفضل الطليعة” رواه البخاري. الطليعة هي التي تتقدم في الميدان وتستجلي الأخطار وتفدي من وراءها، هم فازوا بالسبق للهجرة، ونحن لهم تابعين بإحسان وصدق في هجرة الدنيا وما فيها من أمور صارفة لنا عن قطع ما بيننا وبين ماض مظلم مليء بالسيئات والآثام وإن كان هذا الماضي ثوان مرت أخطأنا فيها في حق الله وحق عباده.
وهجرة عالم حسبنا فيه أنفسنا أحرارا نفعل ما نشاء كيف ما نشاء إلى عالم يحضننا بدفء تعاليمه وإرشاداته وأوامره ونواهيه. من عالم الغفلة إلى إقامة وطن جديد للنفس وبذل الجهد في تحصينه ورفع شأنه. إقلاع من قاعدة الخطايا واقتحام لهوى النفس وتحليق في فضاء الرحمات الإلهية وحط في حمى الله شرعه. فالحمد لله الذي ترك لنا مكانا في رضاه، و نيل ما نالوا، والفوز بما فازوا إن سرنا على خطاهم بإحسان.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الهجرة خصلتان إحداهما أن تهجر السيئات والأخرى أن تهاجر إلى الله ورسوله، ولا تنقطع الهجرة ما تقبلت التوبة، ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه وكفي الناس العمل” رواه الإمام أحمد، فالهجرة باقية ما بقي باب التوبة مفتوحا في وجه الفرد ما لم يغرغر، وفي وجه المجموع ما لم تظهر العلامات الكبرى لقيام الساعة، طلوع الشمس من مغربها، حيث يختم الله على القلوب بما فيها من خير أو شر فلا ينفع بعد ذلك ندم ولا عمل. فالهجرة توبة ودعوة لتوبة، ورحلة في قوارب الموت في سبيل الله وسفن النجاة لنصرة دين الله وإقامة شرعه في الأرض.
“فالمؤمن اليوم مطالب بأن يبرهن عن هجرته إلى الله ورسوله بقطع حبل الجاهلية ما استطاع منها في كل مرحلة من مراحل الجهاد، ومطالب بأن يبرهن عن نصرته بالتعبير العملي عن فضائل الأنصار المذكورة في الآية الكريمة” (المنهاج النبوي الأستاذ عبد السلام ياسين، ص159 بتصرف) فالمؤمن اليوم مهاجر ونصير إن صدق في إيمانه.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان والهجرة والنصرة.