لن نجانب الصواب إذا وسمنا أوضاعنا العامة بالمغرب على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بأنها عقيمة لا تنتج، وساكنة جامدة لا تتحرك، ولا شك أن لذلك أسبابا كثيرة تفاعلت في الماضي بشكل أو بآخر، لتفضي إلى ما نعيشه ونتأذى منه جميعا.
وقد اكتسى هذا الواقع المرفوض في أذهان الكثيرين صفة الثبات والدوام إلى درجة مكَّنت لليأس في النفوس، والعطل في العقول، والكسل في الإرادات، والعجز في الحركة، فغابت المبادرات التغييرية أو كادت، بل لم نعد نفقه كيف نفكر، كيف نسأل ونجيب، كيف نعيش بالأمل ونحيا بالتحدي، في هذا السياق جاءت وثيقة العدل والإحسان محرَّرة من ضيق الكائن، وسجن الواقع، مبشرة بسعة الممكن وفسحة المستقبل، فالكائن واحد والممكن متعدد.
لا شك أن وراء ذلك عوامل وتجليات، أذكر منها:
– الأخذ بقاعدة المصلحة: من خلال مراعاة المقاصد والمعاني في النصوص مقرون بمراعاة الضرورة والحاجة في واقع الناس، وهذا أمر يحتاج درجة عالية من الجرأة العلمية وإن لم تكن معتادة، بشرط أن لا تخرج عن روح الإسلام، ولا عن القواعد الأصولية والمقاصد الشرعية.
– تقدير الكرامة الإنسانية: وهو ما يجعل الجماعة تحرص على إسباغ الطابع الإنساني على كل اقتراحاتها، يعني أنها تؤمن بالله ولا تكفر بالإنسان -على حد تعبير يوسف القرضاوي رحمه الله- وبالنجاح على هذا المستوى نظفر بربحين: تنموي ودعوي.
– التأكيد على أن يكون للإسلام كلمة في السياسة والاقتصاد والاجتماع، في الصحة والتعليم، وهذا من حقوق الناس أن يستفيدوا من توجيهات الإسلام في تنظيم حياتهم، كما أنه واجب على العلماء والدعاة، وإلا جنوا على الدين جملة، لأنه “إذا لم يَخْط العلم قُدما ليساعد في تشكيل السياسة فإنه يجازف بأن يصبح مساره مثل مسار كنيسة العصور الوسطى” 1.
– تغليب المطالب على المتاعب: الغالب على جمهور الناس العيش على إيقاع المعاناة، حولها يدور فكرهم وهمهم ورفعها غاية مطلبهم، وبقليل من النظر تتبين رجعية هذا الأمر، لأن المعاناة طارئة ورفعها فقط يخفي الرغبة في العودة إلى زمن ما قبل المعاناة، في حين أن المطالب اقتراح لمستقبل مفتوح على أمل العيش الكريم، وهذا ما يمكن أن نترجمه بالإبداع في تصور المستقبل وصناعته الذاتية، ولا نقبل أن يكون نسخة جامدة سواء لماضينا، أو لحاضر غيرنا.
– اعتماد الحوار والدعوة إليه داخليا وخارجيا: لا يخفى أن الحوار مستويات، أعلاها قطع المسافة المعنوية وتجاوز الحواجز النفسية التي تفصلك عن الآخر الشريك في المأتى والمسير والمصير لرسم خطة لامتلاك المستقبل، كما له مستلزمات أبرزها الاجتهاد والقدرة على توليد الأفكار واكتشاف الحقائق، ذلك أن أصحاب الكسل الذهني والتقليد المطلق غير قادرين على إنتاج حلول أو إبداء اقتراحات.
– التعامل مع الواقع بدل الانهماك في الوقائع الجزئية المتناثرة: فالواقع مجموعة أنساق قانونية، أخلاقية، ثقافية، سياسية، اقتصادية.. ولكل نسق وظيفة اجتماعية ودور تاريخي.
– صناعة الفعل وعدم الاقتصار على رد الفعل: كثيرة هي “مبادرات” السلطة الحاكمة في البلاد التي تسعى إلى تهوية الجو السياسي، وإشغال المجتمع وقواه بما لا طائل تحته، في إشارة إلى أننا نمتلك اكتفاء ذاتيا من المشاريع والبرامج والأفكار والخطط، بل نبلغ مستوى الإشباع، فما عليك إلا الانخراط في ذلك، وبالتالي إفشال كل محاولة جدية للتغيير.
– إصدار الموقف المناسب من الموقع المناسب: وهذا يتأسس على معرفة عميقة بالذات والإمكانات والعالم والتحديات.
– طلب الحكمة والتماس الحنكة: ومن الحكمة في هذا المقام التظاهر بنسيان خلافات الحاضر مهما بلغ عمقها لتأمين المستقبل، ومن الحنكة ترتيب الصعوبات وترك المجال للزمن ليفعل فعله، فلكل موسم حقيقته.
هذا بعض ما استنبطته من الوثيقة وما دار حولها من نقاش بعد أسبوع من تقديمها، ولا شك أن قابل الأيام سيكشف عن حجم ونوع التفاعل، ودرجة التنزيل والتفعيل. فاللهم سدد.