كشفت جماعة العدل والإحسان النقاب عن وثيقتها السياسية، معتبرة إياها نسخة متطورة من الوثائق التي ضمنتها الجماعة تصوراتها ومقترحاتها السياسية مثل وثيقة “جميعا من أجل الخلاص” الصادرة سنة 2007، ومحطة مهمة من محطات اجتهادها المتواصل: تفصيلا وتوضيحا وتدقيقا وتحيينا، “في اتجاه رص الصف وتوحيد الجهود وبناء القوة المجتمعية لصناعة التحول المنشود… تروم [الوثيقة] التفاعل مع الواقع بتحدياته وفرصه لبناء المستقبل… والسعي لفتح مسارات قابلة للتحقق في المرحلة” (الوثيقة السياسية، ص 10).
بيّن د. عبد الواحد متوكل، رئيس الدائرة السياسية لجماعة العدل والإحسان، في اللقاء الإعلامي لتقديم الوثيقة، سياق ودوافع صدورها، وذَكر أن فكرة الوثيقة -في شكلها التفصيلي الحالي- قديمة عند الجماعة لكنها كانت تُقدر أن الظروف السياسية غير مواتية لإخراجها، وأن الحديث عن تصورات واقتراحات تفصيلية في مناخ سياسي منغلق حديث لا معنى له. وقال إن الجماعة غيرت موقفها ذاك في السنوات الأخيرة رغم معرفتها باستمرار تلك الظروف، وذلك رغبةً منها في:
1- “تجاوز ما كان يعيبه عليها بعض الفضلاء”، ولعله يقصد ملاحظاتهم بخصوص غياب وثيقة مرجعية تلخّص تصور الجماعة السياسي الشامل للمرحلة.
2- “تبديد ما يحسبه بعضهم غموضا غير مريح، [يقولون]: لا نعرف فيما تفكر العدل والإحسان، ولا ما تريد فعله أو تطمح إليه.. إلخ”.
3- “دفع ما يروجه الإعلام الرسمي، ومن يسير في ركابه، من تشويه واتهامات باطلة للعدل والإحسان للتخويف منها: احذروا العدل والإحسان، العدل والإحسان تريد إقامة الخلافة، تريد أن تقضي على التعددية.. إلخ”.
لا يفوتني أن أسجل أولا، صدق لهجة خطاب السيد متوكل، وذكاءه التواصلي الذي لا يستخف بفطنة المتلقي، وابتعاده عن لغة الخشب، وعدم تحرجه من إقرار صواب ملاحظات بعض الفضلاء، وأنه لا مشكلة عند الجماعة في إعادة النظر في قرار من قراراتها متى اتضح لها خلاف ذلك، طالما أنها متمسكة بمبادئها، لا تساوم عليها، ولم تغير منها شيئا.
حسنًا فعلت الجماعة بعدَ “الربيع العربي” حين جددت عملها التواصلي، خاصة بعد ما أحدثه “الربيع” من ديناميةٍ وفرصٍ للتواصل بين مختلف القوى السياسية الحية، وما أملاه ذلك من واجب الوضوح التفصيلي في بعض القضايا، وخصوصا بالنسبة للقوى التي اتخذت مبدأ “العمل التشاركي” مدخلا أساسيا لفعلها السياسي.
وفي تقديري، إن ما سرّع من صدور الوثيقة هو نضج خطاب الجماعة السياسي “للمرحلة”، حيث استفادت كثيرا من دروس تجارب الربيع العربي، وخاصة في البلدان التي خاضت فيها الحركة الإسلامية -مع باقي القوى السياسية- تجربة صياغة دساتير جديدة، وما أثاره ذلك من نقاش دستوري واسع، تتقاطع مضامينه مع قضايا كثيرة في الوثيقة، ووقوف الجماعة على ما انتهت إليه تلك التجارب فهمًا وتحليلا وتقييما، كل ذلك ساعدها في اكتمال الصورة العامة للمرحلة، وحسم لديها النقاش حول أهم الإجابات عن تحدياتها.
وكما كان متوقعا، ذهب بعضهم بخيالهم بعيدا، معتبرين “الوثيقة” أرضية أولية لتأسيس حزب سياسي تمهيدا لمشاركة الجماعة في نظام “ديمقراطية الواجهة”. ولأمثال هؤلاء قال السيد متوكل بالمختصر المفيد، مستبقا تأويلاتهم: “ليس هناك لا طبخ ولا بطيخ”.
لا يعني هذا أن الجماعة ترفض فكرة الحزب السياسي، إذ كيف ترفضها والحزب في تصورها أداة أساسية من أدوات بناء دولة المؤسسات، كما جاء في الوثيقة: “يعد وجود الأحزاب والنقابات والمجتمع المدني ضرورة لاستقرار النظام السياسي وبناء الديمقراطية، إذ تقوم بدور مهم في التعبير عن مصالح المجتمع وآرائه في تدبير الشأن العام، لذلك وجب تقوية مركزها القانوني ودورها السياسي والمجتمعي. فلا ديمقراطية بدون أحزاب قوية ومسؤولة” (الوثيقة السياسية، ص 66). لكن الجماعة بالتأكيد ترفض خوض تجربة محكوم عليها مسبقا بالفشل، وهي حقيقة باتت معلومة حتى عند من كانوا بالأمس القريب من أشد المتحمسين لخوضها، “فأي فائدة من إضافة حزب، أو أحزاب أخرى، تمثل ديكورا لا يتجاوز دور المساعد المنفذ للحاكمين المستفردين بالسلطة بعيدا عن الاختيار الشعبي”، يوضح عضو الأمانة العامة للدائرة السياسية الدكتور رشدي بويبري في حوار صحفي.
وباستحضار الزمن السياسي الذي صدرت فيه الوثيقة، والذي يتسم بتغول السلطوية عبر إجهازها على ما تبقى من هامش “ديمقراطي”، وإفراغها الأحزاب السياسية من أي فاعلية إصلاحية، بله تغييرية، يضاف إلى ذلك، تفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، وباعتبار الجماعة مكونا أساسيا من مكونات قوى المجتمع الحية المؤهلة للقيام بأدوار متقدمة في بلورة مبادرات جادة لإخراج البلاد من ضيق الفساد والاستبداد إلى سعة الحرية والعدل والكرامة، فإن ما تطرحه الوثيقة من نفَس تشاركي وتوافقي، ومن مشروع تأسيسي لأرضية ديمقراطية قوية، تحفظ الهويات، وتراعي الخصوصيات، وتجمع كلمة المغاربة ضد الفساد والاستبداد، لهو طرح مهم على الساحة السياسية المغربية، أتى في زمن دقيق ليقترح طوق نجاة حقيقي على النخبة المغربية بكل تصنيفاتها الأيديولوجية والسياسية، ويحصن دينامية الشعب المغربي من فخ خطر التطاحن الهوياتي، ومن خطر غياب أرضية وطنية جامعة تنتصر بصدق لقضايا المغاربة الكبرى ضد الاستبداد والفساد.