ليس من المبالغة في شيء القول بأن جماعة العدل والإحسان أكثر التنظيمات الدعوية والسياسية بالمغرب إنتاجا وإصدارا للتصورات والمواقف الرسمية مكتوبة وموثقة، وذلك منذ خروجها إلى العلن مع رسالة الإسلام أو الطوفان سنة 1974م وحتى يومنا هذا. وفي هذا ابتعاد عن الغموض أو التململ في التعبير عن المواقف، خاصة وأن هذه المنشورات تصدر عن مؤسسات قيادية بالجماعة، سواء كانت مؤسسة المرشد العام أو مجلس الإرشاد أو الدائرة السياسية أو غيرها من المؤسسات حسب اختصاص كل منها.
ويأتي ذلك ليس فقط بغاية تسجيل اللحظة التاريخية وإثبات الموقف والحجة، ولكن من أجل إعطاء القضايا المصرح حولها قيمتها وقدرها الحقيقي في الواقع السياسي والاجتماعي للمغرب والمغاربة، وكذلك بهدف نحت مسار ونهج جديد للعمل السياسي يتسم بالالتزام الفعلي والوضوح البيّن اتجاه قضايا البلد، بما يساعد المتابعين والدارسين على رصد الفعل والفاعلين في المشهد السياسي المغربي. وهو الشيء الذي تنفرد به جماعة العدل والإحسان عن الكثير من المكونات السياسية بالمغرب. ولا يتم التمييز في ذلك بين القضايا حسب الأهمية أو الظرف أو الجهة المقصودة بالمنشور.
فكما أعلنت الجماعة عن موقفها مكتوبا وموثقا من النظام السياسي القائم بعهديه القديم والجديد من خلال رسالتي “الإسلام أو الطوفان” و”إلى من يهمه الأمر”، أخرجت مواقفها الموثقة من المسلسل الانتخابي، ومن العفو الملكي الشامل سنة 1994م الذي ردت عليه الجماعة في شهر يوليوز من نفس العام برسالة مكتوبة للمرشد الأستاذ عبد السلام ياسين والذي وصفه بـ”العفو الشامل المائل الهامل”، ونفس المنوال فعلت قيادة الجماعة وهي تحت الاعتقال عندما أصدرت رسالة تضامنية مكتوبة مع المناضل النقابي محمد نوبير الأموي الذي اعتقل سنة 1991م. وعلى هذا المنوال سار الأمر في العديد من المحطات التي يصعب حصرها وسردها.
منذ الإعلان عن تأسيس الدائرة السياسية للجماعة سنة 1998م دأبت قيادة الجماعة على التفاعل المستمر مع المحطات والأحداث السياسية الوطنية الكبرى للبلد، وخاصة الانتخابات التشريعية المتعاقبة منذ سنة 2002م وحتى اليوم. وهكذا أصدرت الجماعة ممثلة في مؤسسة الدائرة السياسية عدة وثائق تجيب عن التساؤل المرتبط بموقفها من المشاركة في اللعبة الانتخابية وما الجدوى والآمال التي قد يعلقها المغاربة على أي مخرجات أو نتائج لأصواتهم المدلى بها يوم الاقتراع “الفلكلوري” الذي يحشد له المخزن كل زينته.
فقد أصدرت الجماعة عشية انتخابات سنة 2002 التشريعية وثيقة “الانتخابات المغربية في الميزان”، ووثيقة “جميعا من أجل الخلاص” بمناسبة انتخابات 2007م، ووثيقتين بمناسبة دستور وانتخابات 2011م “مشروع دستور 2011: وفاء وعصرنة لروج الاستبداد” ووثيقة “لهذه الأسباب الدستورية والسياسية والقانونية تقاطع جماعة العدل والاحسان الانتخابات وتدعو إلى مقاطعتها”، ووثيقة “رفعا للشرعية عن الفساد والاستبداد ورفضا لتزكية مؤسسات شكلية تدعو جماعة العدل والإحسان إلى مقاطعة انتخابات 7 أكتوبر” المعبرة عن الموقف من انتخابات 2016م، ثم ختمتها بالوثيقة السياسية للجماعة التي تم الإعلان عنها من خلال الندوة الصحفية المنعقدة يوم الثلاثاء 25 رجب 1445ه الموافق لـ6 فبراير 2024م.
تأتي إذن الوثيقة السياسية للجماعة ضمن سيرورة تاريخية من الأداء والحضور الفعلي في المشهد السياسي منذ أن عقدت قيادة الجماعة العهد على نفسها بالتعبير الواضح والقوي اتجاه أحداث ومستجدات البلد وقضاياه الكبرى، وتشكل هذه الوثيقة، بالنظر إلى حجمها ومضمونها، تتويجا لمسار كبير من التدافع السياسي والمجتمعي الذي أكمل عقوده الأربعة العام الماضي ويسير بثبات وثقة وأمل نحو المستقبل.
لكن هذه الوثيقة السياسية الجديدة تنفرد عما سبقها من وثائق العدل والإحسان في كونها لا تقف عند حدود تشخيص الواقع والتعبير عن الموقف منه، وإنما تتجاوز ذلك إلى تقديم المداخل الكبرى الرئيسية والمقترحات الإجرائية للنهوض بالبلد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، وذلك من خلال عرضها لـ777 مقترحا تشمل كل جوانب العمل السياسي والمجتمعي. وهذا ما لم يرق البعض، فطفق يحلل عن غير بينة، ويفسر من دون دليل بأن جماعة العدل والإحسان قد غيرت مواقفها السابقة وجنحت نحو التصالح مع الفساد والاستبداد.
تنفرد كذلك هذه الوثيقة في إحاطتها بالجوانب الثقافية والفنية والرياضية فضلا عن الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية، عبر إبداء رأي أهل العدل والإحسان في العديد من القضايا والانشغالات اليومية للمغاربة؛ والتي تمس واقعهم وحياتهم الفردية والجماعية بشكل ملموس، وتنعكس على مستقبل البلد وآفاق تطويره وتنميته.
وتبقى الوثيقة السياسية الجديدة، بغض النظر عن الظرف الذي صدرت فيه والمتميز بانحباس الأفق السياسي والحزبي المغربي والاحتقان الاجتماعي المنذر بالانفجار غير المحسوب العواقب والامتدادات، مرحلة من مراحل تطور الأداء السياسي والتنظيمي لجماعة العدل والإحسان التي دأبت على عدم تكرار أو استنساخ التجارب والأشكال النضالية والتواصلية.