تقديم
جاء الإعلان عن الوثيقة السياسية للجماعة في سياق محلي يعرف تراجعا كبيرا على مستوى الحقوق والحريات، حيث القمع والاعتقال لكل الأصوات الحرة، وانحدار خطير في مؤشرات التنمية والتعليم، واتساع شاسع للهوة بين الأغنياء والفقراء، وتراجع في القدرة الشرائية للمواطنين، وارتفاع مهول في أسعار المواد الغذائية والمحروقات، واحتقان كبير على المستوى الاجتماعي، وانغلاق تام في الأفق السياسي. أما على المستوى الدولي فالشعب الفلسطيني يؤدي ثمن ضريبة الجهاد والدفاع عن المسجد الأقصى المبارك حيث عدد الشهداء بلغ حوالي ثلاثين ألفا وضعف هذا العدد من الجرحى والمعطوبين، ناهيك عن الحصار والتجويع والتشريد والمرض، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، الشاهد على تخاذل حكام المسلمين في نصرة إخوانهم المسلمين، المنزل السكينة والطمأنينة والرضا على شعب غزة العزة فلم يزدهم جبروت الصهاينة الغاصبين إلا ثباتا ويقينا وتشبثا بأرض الوطن.
إن ما يعيشه الشعب الفلسطيني اليوم في غزة العزة من إبادة جماعية دليل واضح وبرهان ساطع، على زيف شعارات حقوق الإنسان ودور المؤسسات الدولية في تحقيق الأمن والاستقرار في العالم. وتبين بما لا مجال للشك أننا في عالم لا يعترف إلا بالقوة الصناعية والاقتصادية والعسكرية، أما القيم والمبادئ والقوانين فهي تابعة خاضعة منصاعة.
في هذا السياق تأتي الوثيقة السياسية للجماعة لتوضح ما تقترحه من بدائل للتحرر من التخلف والتبعية والظلم والاستبداد، وبناء دولة الاكتفاء الذاتي والاستقلال السياسي، دولة تنتج غذاءها ودواءها وسلاحها بسواعد أبنائها، دولة قوية يهابها الأعداء، ويستنصر بها المستضعفون في مشارق الأرض ومغاربها، دولة قادرة على تحرير بيت المقدس وتطهيره من رجس الصهاينة الغاصبين.
تأتي الوثيقة لتوقد شمعة أمل وتفاؤل بل ويقين تام بأن بعد العسر سيأتي اليسر، وأنه عندما تغلق كل الأبواب فتلك علامة الفرج والنصر، وأن قساوة الواقع ومرارته لا ينبغي أن تضعف يقيننا في نصر الله وعدله ورحمته بعباده.
جاءت الوثيقة تذكر بثوابت وأسس في مشروع الجماعة وتصورها السياسي لا محيد عنها، وتؤكد على أهمية وضرورة نظرية المنهاج النبوي في فهم ماضي المسلمين والتعامل مع واقعهم والتخطيط لمستقبلهم، وتوضح الآليات والوسائل والأدوات، التي من شأنها أن تساعد على إقامة دولة العدل والحرية والكرامة، دولة القوانين والمؤسسات والفصل بين السلط، وتشييد اقتصاد التكافل والعدالة والتنمية المستدامة، وبناء مجتمع الكرامة والتضامن والتربية المتوازنة.
فما هي أسس ومرتكزات المشروع المجتمعي للجماعة؟ وما هي منطلقات وأهداف التصور السياسي وأهم خصائصه؟ ما هي مفاتيح التصور المنهاجي لماضي المسلمين وحاضرهم؟ ما هي مقترحات الوثيقة من أجل بناء دولة العدل والحرية؟ كيف السبيل لبناء اقتصاد العدالة والتنمية المستدامة؟ وما هي الآليات والأدوات الكفيلة ببناء مجتمع الكرامة والتربية المتوازنة؟
تذكير
إن الوثيقة السياسية للجماعة أريد لها أن تكون وسيلة وأداة للتواصل والتفاهم وتقريب وجهات النظر، مع الهيئات السياسية والأحزاب والنخب والباحثين وعموم المواطنين، حول التصور السياسي للجماعة وما تقترحه من آليات وأدوات، ومشاريع وأفكار واقتراحات، من أجل تجاوز واقع الفقر والقهر والظلم، وبناء مجتمع الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية. ولتحقيق هذا التواصل وتسهيل وتيسير التفاهم، حرصت الوثيقة في المقدمة على التذكير بأسس مشروع الجماعة التي لا محيد عنها والمتمثلة في هذا التلازم الوثيق والترابط العميق بين ثنائية العدل والإحسان، باعتبارهما قضيتين محوريتين في فكر الجماعة ومشروعها وبرامجها، على اعتبار أن التغيير السياسي في مشروع الجماعة مرتبط بالتغيير التربوي والأخلاقي، رغم أنهما متمايزان وظيفيا وموضوعيا ولكل منهما مجاله وأدواته ووسائله.
ولتحقيق هذا التمايز الوظيفي تأسست الدائرة السياسية سنة 1998، وهي المؤسسة المتخصصة في قضايا الشأن العام، وساهمت مع باقي الفرقاء السياسيين في مقاومة الاستبداد عبر الحضور المتواصل وكلمتها الصريحة في النقاش العمومي، كما اشتغل أطرها على إعداد عدة أوراق ووثائق اقتراحية لإخراج البلاد مما تعيشه من أزمات؛ مثل وثيقة “حلف الإخاء” ووثيقة “جميعا من أجل الخلاص” الصادرتين سنتي 2006 و2007. بناء عليه فهذه الوثيقة نسخة متطورة من مثيلاتها وحلقة ضمن سلسلة الوثائق التي ضمنتها الجماعة مقترحاتها السياسية.
كما أكدت الوثيقة السياسية في مقدمتها على أن المشروع السياسي للجماعة يقوم على ثلاثة أسس هي: بناء الإنسان، تشييد مجتمع العمران الأخوي، وترسيخ القيم الإسلامية في تأسيس مفهوم المواطنة. وهي أسس تبين تميز تصور المنهاج النبوي لطبيعة التغيير المجتمعي المطلوب ومراحله وأدواته، وكذلك تذكر الوثيقة بأهداف التصور السياسي وخصائصه، وكل ذلك من أجل التواصل وتيسير التفاهم ومناقشة الوثيقة والحكم على مقترحاتها، من داخل المشروع المجتمعي للجماعة، وانطلاقا من التصور المنهاجي للتغيير السياسي والتربوي المنشود، واستحضارا لأهداف التصور السياسي وخصائصه عند الجماعة، وعدم محاكمة الوثيقة من خلال تصورات أخرى للتغيير، ووجهات نظر أخرى للدين والسياسة والاقتصاد، وإلا ستكون مناقشتنا لمقترحات الوثيقة مجرد أحكام جاهزة بعيدة عن التصور المنهاجي الذي يؤطرها، والمشروع المجتمعي الذي هي جزء منه.
إذن؛ لماذا كل هذا التذكير والتأكيد على أهمية التلازم والترابط بين قضيتي العدل والإحسان في المشروع الفكري والسياسي والتربوي للجماعة؟
يقول الله تعالى في محكم تنزيله: إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ والإحْسانِ (الآية 90 سورة النحل).
إن الله يأمر بالعدل بما هو قسط وإكرام للمساكين ودفاع عن المستضعفين من النساء والأطفال والفقراء والمهمشين، حتى يسمعوا كلام الله وتخفق قلوبهم لمحبته وطاعته، كما أنه يأمر بالإحسان بما هو سلوك إلى الله وتقرب إليه بالفرض والنفل واستحضار دائم لمراقبته وسعي حثيث ومتواصل للتحلي بجميل الأخلاق وطيب المعاملة، واجتهاد وإبداع في ما أتقنه من أعمال ومهن، لأن ذلك هو الضامن لاستمرارية العدل والمساواة، التكافل والتعاون، وكل معاني مجتمع العمران الأخوي المنشود، وتحقيق معنى الاستخلاف كما أراده الله حيث عمارة الأرض بالخير والبر والتقوى.
إن هذه الآية الكريمة بمثابة توجيه رباني للمسلمين خاصة، ومن خلالهم للإنسانية جمعاء؛ بأن العدل قرين الإحسان وملازم له، وهذا التلازم هو مفتاح بناء مجتمع الكرامة والعدالة الاجتماعية، والضامن لاستمرار قيم الشورى والمحاسبة والتنافس في خدمة الناس وقضاء حوائجهم، مفتاح بناء مجتمع الاستقرار السياسي والرفاه الاجتماعي والتطور الصناعي حيث الظروف مواتية لعبادة الله والاجتهاد في التقرب إليه بالفرض والنفل، وهم الآخرة غالب على هم الدنيا وطلب المعاش.
إن هذا الترابط والتلازم بين العدل والإحسان هو صمام أمان المجتمعات والدول والضامن لرقي وتطور الحضارات، لتحقيق معاني الاستخلاف وعمارة الأرض كما أمر الله، وكما تحقق في عهد رسول الله صلى الله عليه وصحابته من بعده، حيث عم العدل والحق والمساواة والتكافل والتضامن والتعايش والتسامح، عم حب الله والحب في الله والجهاد في سبيل الله والمستضعفين، حتى قال سيدنا عمر رضي الله عنه: لو عثرت بغلة في أرض العراق لخشيت أن يحاسبني الله عليها فيقول لي لِم لَم تعد لها الطريق يا عمر.
إن المشروع السياسي لجماعة العدل والإحسان يقوم أساسا على هذا التلازم الوثيق والترابط العميق بين ثنائية العدل والإحسان؛ حيث التكامل والتفاعل والتأثير والتأثر المتبادل، حيث الأصالة والواقعية والمستقبلية. يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله رحمة واسعة دائمة: “نحمل إخوتي شعار العدل والإحسان ليكون لواؤنا بين الدعوات ثائرا خفاقا، بخفقان حب الله في قلوبنا وخفقان الحب في الله والذلة على المؤمنين وحب المساكين، والجهاد في سبيل الله والمستضعفين، وليكون عنوانا في السياسة مشهورا منشورا، له أصالته من القرآن وله واقعيته من غضبنا لما تنتهكه الطبقة المتطرفة المستكبرة من حقوق الله وحقوق العباد” 1.
إن العدل والإحسان أكثر من مجرد شعار يميز الجماعة عن غيرها، إنه تلخيص للمشروع المجتمعي للجماعة، يحدد الأهداف ويرسم الغايات سواء على مستوى الخلاص الفردي حيث الإحسان أو على المستوى الخلاص الجماعي حيث الاستخلاف، إنه قرآن كريم ورسالة من رب العالمين إلى الناس أجمعين، تخبرهم أن سعادتهم في الدارين تكمن في الجمع بين مطلبي العدل والإحسان.
إن الجمع بين مطلبي العدل والإحسان في المشروع السياسي للجماعة هو امتثال لأمر الله واتباع كامل لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي يعتبر السياسة جزءا من الدين حيث التهمم بأحوال المسلمين وقضاء حوائجهم، والعدل إحدى غاياته، حيث القسط والمساواة في الحقوق والواجبات، والدولة هي الوسيلة والأداة التي بها ومن خلالها تضمن الحقوق وتفرض الواجبات، عبر مؤسسات وقوانين وتشريعات تنسجم مع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. هذا التلازم بين ثنائية العدل والإحسان ليس إقحاما للدين في السياسة أو خلطا بين الدين والدولة وعدم الفصل بينهما، بل هو تذكير بكلام الله الذي أمر بالعدل والإحسان، واتباع كامل لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واقتداء بالصحابة الكرام الخلفاء الراشدين النموذج الخالد الذين جمعوا بين العدل والإحسان في سلوكهم ومعاملاتهم وتشريعاتهم ومؤسساتهم وكل حياتهم، فكانت النتيجة بناء مجتمع التكافل والتعاون والتضامن والكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية، النتيجة بناء خلافة راشدة ملأت الأرض عدلا ورحمة.
تأكيد
أكدت الوثيقة أن المرجعية النظرية للجماعة تنطلق من “المنهاج النبوي بما هو آلة للعلم ومرشد للعمل، بقراءة متجددة لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وكتاب العالم والحكمة البشرية” 2.
إن الجمع بين مطلبي العدل والإحسان في المشروع السياسي للجماعة تأكيد على أن تاريخ المسلمين مختلف عن تاريخ غيرهم من المجتمعات والشعوب، تاريخ يوضح بجلاء أن التلازم بين ثنائية العدل والإحسان كان مفتاح التقدم والازدهار الذي عرفته الدولة الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين، كما أن انفصال العدل عن الإحسان أو انفصال الحكم عن الإحسان بما هو حب لله واشتياق للقائه، وعندما دخل الوهن إلى القلوب حيث حب الدنيا وكراهية الموت، كان ذلك سببا مباشرا للتراجع والتقهقر، وتحول الحكم من شورى إلى وراثة ومن عدل إلى ظلم.
في حين أن غيرنا من المجتمعات وخاصة الأوروبية منها، يتميز تاريخها بعلاقة متوترة بين الدين -المصنوع والمحرف- والدولة، حيث كان رجال الدين وبتواطؤ مع الحكام يفرضون على الناس أوامر باسم الدين تمعن في إذلال الإنسان وتحط من كرامته، فكانت النتيجة احتفاظ الإنسان الغربي بصورة سوداء عن الدين وممارسات رجال الدين، وكان الحل بالنسبة إليهم فصل الدين عن الدولة.
إن نظرية المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا تنطلق من كون تاريخ المسلمين يتطلب فهم مختلف وسائل التشخيص واقتراح الحلول والبدائل، ولا يمكن أن نفهم تاريخنا بنظريات وأفكار غيرنا، كما لا يمكن أن نغير واقعنا باستنساخ تجارب غيرنا في السياسة والاقتصاد، نعم نستفيد من التجارب الناجحة ونأخذ الحكمة البشرية في التدبير والتيسير، لكن بانسجام تام مع مبادئنا وخصوصيتنا.
إن الجمع بين مطلبي العدل والإحسان في المشروع السياسي للجماعة تأكيد على تجديد معاني الدين في العقول والأفهام، ليشمل السياسة والاقتصاد والتعليم والصناعة والتجارة والثقافة والرياضة وكل مجالات الحياة، ويكون موجها للدولة والقوانين والمؤسسات والتشريعات والاتفاقيات، وليس منفصلا عنها.
وهذا الفهم المتجدد للدين يتطلب تجديدا للإيمان في القلوب وتربيته وتنميته حتى يقوى ويشتد عوده فينعكس على الجوارح عملا صالحا، وعلى العقل فهما سديدا، وعلى الإرادة قوة وهمة عالية تقتحم عقبة السلوك إلى الله والتقرب إليه، وعقبة بناء دولة الحق والعدل والمساواة.
إن الجمع بين مطلبي العدل والإحسان في المشروع السياسي للجماعة تأكيد على أن ما عرفه تاريخ المسلمين من افتراق بين القرآن والسلطان، بين العدل والإحسان، عندما دخل الوهن القلوب وسيطر حب الدنيا على النفوس وحب الرئاسة على العقول، فغابت الشورى والعدل والحرية، وحضر الظلم والقمع والاستبداد، وأصبح الحاكم همه الأول والأخير البقاء في السلطة حتى لو أجبر العلماء والفقهاء على تبرير ممارساته وسلوكاته بنصوص وآيات من القرآن والسنة، فعاشت الأمة سنوات بل عقود من الزمن تحت وطأة الظلم والفقر والقهر والعبودية لغير الله، والقمع والجهل بسبب الفهم الخاطئ للدين، وللأسف الشديد مازالت مجموعة من المجتمعات ليوم الناس هذا تعيش القهر بسبب هذا الفهم.
لكن هذا لا يعني أن المشكلة في الإسلام أو في هذا الوصل بين العدل والإحسان أو في الخلط بين الدين والدولة عند المسلمين، بل المشكلة في الحاكم الذي سكن قلبه حب الدنيا وسكن عقله حب الرئاسة، فأصبح يكره الشورى والمحاسبة، المشكلة في خوف العلماء من بطش الحاكم وظلمه ومالوا إلى إكرامه وعطفه وبرروا له سلوكاته وأعماله بنصوص من القرآن والسنة، المشكلة في الشعوب المسلمة التي قبلت أن تعيش الفقر والقهر بسبب فهم خاطئ للدين. والحل أيضا بيد هذه الشعوب المسلمة حينما تقوم وتطالب بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، تطالب بالعدل والديموقراطية والفصل بين السلط والشورى حيث الاختيار النزيه والحر، تطالب بإقامة شرع الله حيث العدل والإحسان.
توضيح
إن الوثيقة السياسية للجماعة توضح أن هذا التلازم والترابط بين العدل والإحسان، وهذا الاستحضار الدائم للنموذج الخالد في الحكم الذي جسده الصحابة الكرام، لا يعني الانغلاق التام عن العالم، والتقوقع الكلي على الذات وعدم الانفتاح على تجارب الآخرين، أو الرغبة في الرجوع بالناس إلى ثقافة الجمل كما يحلو لبعض الأقلام أن تصف مشروع الجماعة، بل عكس ذلك تماما الجماعة منفتحة على جميع التجارب، وتأخذ بالحكمة البشرية بغض النظر عن مصدرها، ودليل ذلك وبرهانه هو ما تقترحه الورقة السياسية من دولة مدنية تقوم أساسا على الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية، حيث القطيعة مع الاستبداد من خلال دستور ديمقراطي تكون فيه الكلمة الأولى للشعب، حيث ربط المسؤولية بالمحاسبة، والفصل بين السلط الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية واستقلالها، لكن دون انصهار تام وتماهٍ كلي مع فلسفة هذه الآليات والأدوات والخضوع لإيديولوجيتها، بل نخضع آليات الديموقراطية لفلسفة كتاب الله عز وجل، ونوجهها ونؤطرها بالتصور المنهاجي حيث سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن الوثيقة السياسية للجماعة توضح أن هناك ترابطا كبيرا بين طبيعة النظام الاقتصادي والمسألة الاجتماعية، بحيث أن اللامساواة الاجتماعية والفقر والبطالة والإقصاء والتهميش الذي تعيشه فئة واسعة داخل المجتمع، هو نتيجة حتمية ومباشرة لطبيعة النظام الاقتصادي “الليبرالية الجديدة” والسياسي الذي يحكم البشرية اليوم بشكل عام والمغرب بشكل خاص، حيث المنفعة والمصلحة، والغاية تبرر الوسيلة، وحيث غياب شبه مطلق للقيم والأخلاق والمبادئ في العلاقات الاقتصادية والسياسية.
وبالتالي فمقاربة المسألة الاجتماعية يجب أن تتم بطريق شمولية ومن خلال معالجة الخلل في النظم الاقتصادية والسياسية التي تحكم المجتمع، فالفقراء ليس هم المسؤولون عن فقرهم بل هم مجرد نتيجة للخلل القائم في طبيعة النسق السياسي والاقتصادي الذي يحكم المجتمع.
وبالتالي يجب التفكير في نمط جديد يستدمج القيم والأخلاق والمبادئ في كل مناحي الحياة سواء الاقتصادية أو السياسية أو الثقافية أو الاجتماعية، ويتجاوز الأنانية والحب المفرط للذات والمصلحية والبرغماتية. نمط يجمع بين العدل والإحسان.
في هذا السياق تقترح الوثيقة اقتصادا مسؤولا “يكون في خدمة الإنسان ويلبي الحاجات الأساسية… يتيح للمواطن من الوقت والإمكانيات ما يساعده على تحقيق العبودية لله عز وجل فلا يجعل الإنسان آلة أو يجعله يلهث وراء حاجيات ورغبات مادية لا تنتهي” 3. اقتصاد عادل منفتح، تنافسي وأخلاقي، “لا يقتصر فيه دور الدولة في عمليات التوجيه والحفز والمواكبة، بل من واجبها إنتاج السلع والخدمات الاجتماعية خاصة ما يتعلق بالمرافق الأساسية من أمن وعدالة وصحة وتعليم وبنيات تحتية وغيرها” 4.
تقترح الوثيقة بدائل وإجراءات من شأنها أن تساعد على بناء اقتصاد يضمن العدالة في توزيع الثروات والاستفادة بالتساوي من كل التسهيلات والمبادرات بين جميع الشرائح والفئات، ومختلف الأقاليم والجهات، ويؤسس للتكافل والتضامن بين جميع الأفراد والهيئات، ويحقق التنمية المستدامة حيث المحافظة على الثروات وضمان استمرارها للأجيال اللاحقة.
إن الوثيقة السياسية للجماعة توضح أن السبيل لبناء مجتمع متماسك، ونسيج اجتماعي متكامل، وعلاقات اجتماعية متوازنة مترابطة، هو تحرير إرادة الإنسان من كل الإكراهات والعقبات، سواء الداخلية النفسية حيث الشهوات والغرائز والميولات، أو الخارجية حيث الفقر والجهل والقمع والإقصاء، تحرير يمكن الإنسان من معرفة خالقه معرفة واضحة اختيارية لا إكراه فيها، على اعتبار أن حرية الاختيارات العقدية والدينية مبدأ أصيل في ديننا، تحرير يمكنه من تعليم جيد وتربية متوازنة تجمع بين تربية العلم في العقول وتربية الإيمان في القلوب واكتشاف المواهب والقدرات والعمل على تنميتها وتطويرها. تحرير يمكن المرأة من أخذ المكانة التي تليق بها داخل المجتمع؛ فهي مفتاح التربية وسر التغيير. تحرير يمكن الشباب من أخذ المبادرة والانطلاق نحو بناء مجتمع التقدم والنجاح، حيث الرياضة وسيلة لاكتشاف المواهب والطاقات، ومجال واسع للتعبير عن القيم والمبادئ والأخلاق والمعاملات، وطريق لتحسين الدخل وبناء اقتصاد رياضي عادل وتنافسي، فالشباب رمز المستقبل والأمل في غد أفضل. تحرير يمكن الأسرة من تجاوز ويلات التفكك والعنف والفقر، وبناء قيم الصبر والمحبة والمودة والرحمة والكرامة.
إن الوثيقة السياسية للجماعة تقترح تحرير إرادة الإنسان من خلال مدخلين أساسين:
التحرر الداخلي من سلطة الغرائز والشهوات والميولات، وذلك من خلال التربية المتوازنة، والتعليم الجيد، والأسرة المتماسكة الواعية بدورها التربوي المتفرغة له، والإعلام الهادف الذي يروج للقيم والمبادئ الجيدة والمتجددة، وتجاوز إعلام الخلاعة والانحلال الخلقي والحرية المطلقة.
التحرير الخارجي ويتم عبر صياغة قوانين وتشريعات عادلة تضمن حرية الاختيار والرأي والتعبير والمشاركة في اتخاد القرار، تضمن تحرير المبادرات والاستفادة من الخيرات والثروات، وأيضا عبر بناء مؤسسات ديمقراطية تضمن صيانة هذه الحقوق السياسية والثقافية والرياضية والاجتماعية والاقتصادية وتدافع عنها، بل وتعمل من أجل ضمان العيش الكريم لكل المواطنين.
إن الوثيقة السياسية للجماعة تقترح حرية مسؤولة “ينظمها ويحميها القانون في الفضاء العام بمنطق التعايش المجتمعي الفاضل، فمثلما لا يحق لأي كان أن يتسور على الناس بيوتهم ليطلع على أسرارهم بدعوى الرقابة الأخلاقية، لا يحق لأي كان بدعوى الحرية الفردية، أن ينتهك الفضاء العام المشترك” 5.
إشارات
إن الوثيقة السياسية للجماعة إذ تذكر وتؤكد على أسس ومنطلقات وأهداف التصور السياسي للجماعة، لتبين أن هناك اتصالا واستمرارية بين ماضي هذا التصور وحاضره وليست هناك أي قطيعة أو تراجع أو خفض لسقف المطالب، بل ثبات على المبادئ واجتهاد في اقتراح البدائل، وتوضيح وتدقيق وتفصيل في الآليات والأدوات التي من شأنها أن تساعد على بناء دولة الحق والعدل والمساواة.
إن الوثيقة السياسية للجماعة تميز بين الترابط القيمي المبدئي بين ثنائية العدل والإحسان؛ حيث التلازم الوثيق والترابط العميق والتأثير والتأثر المتبادل بين التغيير السياسي والتغيير التربوي الأخلاقي، والتمايز الوظيفي الموضوعي بين مطلب العدل والاهتمام بالشأن العام حيث التغيير السياسي وما يتطلبه من أدوات وآليات، وخبرة وحكمة عقلية، وغاية الإحسان حيث التغيير التربوي الأخلاقي وما يتطلبه من تربية إيمانية متوازنة ورجال صادقين، ورحمة قلبية. إن الوثيقة السياسية توضح أن الترابط القيمي العميق بين ثنائية العدل والإحسان لا يعني الانصهار التام والذوبان الكلي، بل يعني أيضا الاختلاف من حيث مجالات التغيير ووسائله وآلياته، كما أن التمايز الوظيفي بينها لا يعني الانفصال والقطيعة، بل يعني أيضا التكامل والتفاعل والتأثير والتأثر المتبادل.
إن الوثيقة السياسية للجماعة تميز بين الدولة المدنية كحكمة بشرية واجتهاد إنساني نستفيد منه مع احترام تام لخصوصيتنا، وانسجام كامل مع قيمنا، وبين الدولة المدنية كفلسفات وإيديولوجيات واستنساخ مطلق، وتقليد أعمى للتجربة الغربية في التغيير السياسي.
إن الوثيقة السياسية للجماعة تقترح مفهوم “الحرية المسؤولة” وهي تجمع بين الحق في الحرية الفردية في الاعتقاد والتعبير والانتماء، والحق في احترام الفضاء العام المشترك كالمؤسسات العمومية والإعلام والشارع العام.
تقترح الوثيقة أيضا مفهوم “اقتصاد مسؤول” يكون في خدمة الإنسان ويلبي الحاجات الأساسية، اقتصاد أخلاقي يستدمج القيم ويتيح للمواطن من الوقت والإمكانيات ما يساعده على تحقيق العبودية لله عز وجل؛ فلا يجعل الإنسان آلة أو يجعله يلهث وراء حاجيات ورغبات مادية لا تنتهي.
إن الوثيقة السياسية للجماعة تتكون من مقدمة وثلاثة محاور وغياب الخاتمة وكأن ورش التفكير والدراسة والتحليل للمقترحات والبدائل، والأدوات والآليات التي من شأنها أن تساعد على توضيح وتدقيق وتفصيل التصور السياسي للجماعة من جهة، وتساعد على تجاوز واقع الفقر والقهر والظلم من جهة أخرى، لازال مفتوحا ومنفتحا على ملاحظات واقتراحات جميع الباحثين والمختصين سواء من داخل الجماعة أو من خارجها.
إن الوثيقة السياسية للجماعة تعتبر أن مطلب العدل هو مفتاح إقامة دول الحرية المسؤولة والكرامة وحكم المؤسسات، الدولة المدنية حيث الديمقراطية والقوانين العادلة والفصل بين السلط، دولة الاكتفاء الذاتي والاستقلال السياسي، دولة الاقتصاد العادل الذي يستدمج القيم والأخلاق، دولة التعليم الجيد والأسرة المتماسكة والإعلام الهادف والصناعة المتطورة، دولة الرفاه الاجتماعي والتضامن والتعاون والتراحم والتكافل بين كل أفراد المجتمع، دولة الأمن والاستقرار حيث الظروف مواتية للمواطن حتى يعبد الله ويتقرب إليه ويجتهد في طلب رضاه وتلك هي الغاية الإحسانية التي تشرئب لها الهمم العالية والقلوب الحية، وما العدل والسعي لخدمة الناس وقضاء حوائجهم، والدفاع عن المستضعفين وصون كرامتهم، إلا وسيلة وأداة بها يتقرب العبد إلى الله حتى يرضى عنه.