الورع والزهد في زمن الفتنة (1)

Cover Image for الورع والزهد في زمن الفتنة (1)
نشر بتاريخ

ينطبق الورع على كل من اجتنب المحرمات والشبهات معا، وهو أعم من الزهد، بل مقدمة له، وكل زاهد ورع، وليس كل ورع زاهد 1، وقيل: إن الورع هو الخروج من الشبهات وترك السيئات 2، و”يندُب من هم في سَعَةٍ من أمرهم أن يتنَزّهوا حتى عن بعض المباحات.” 3 وفي كلام عجيب اختلف في قائله بين السيدين سلمان الفارسي وأبي هريرة رضي الله عنهما أن “جلساء الله غدا أهل الورع والزهد” 4، ويروى أن شيخ الإسلام ابن تيمية قال: “الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما تخاف ضرره في الآخرة” 5، وربط بعضهم الزهد بالشكر في حالة السراء والصبر في حالة الضراء 6.   

وقد جعل الإمام الغزالي رحمه الله الورع أربع درجات 7:

الأولى ورع العدول: وهو التورع عمّا تحرّمه فتاوى الفقهاء.

الثانية ورع الصالحين: وهو الامتناع عما يتطرّق إليه احتمال التحريم، اعتمادا على قوله صلى الله عليه وسلم: “دع ما يريبك إلى ما لا يريبك” 8.

الثالثة ورع المتقين: وهو ما لا تحرِّمه الفتوى، ولا شبهة في حله، ولكن يخاف منه أن يؤدي إلى حرام، ويشهد له قول النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً لما به البأس” 9.

الرابعة ورع الصديقين: فالحلال عندهم كل ما لا يتقدم في أسبابه معصية ولا يستعان به على معصية، ولا يقصد منه في الحال والمآل قضاء وطر بل يتناول لله تعالى فقط، وللتقوي على طاعته، واستبقاء الحياة لأجله. ويرون كل ما ليس لله حراماً امتثالاً لقوله تعالى: قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون 10.

والورع هو من تورع وورِع (بكسر الراء) عن المحارم، أي تحرج من، وتوقى وتجنب المحارم. ثم استعير هذا المعنى الأصلي بعد ذلك للكف عن المباح وعن الحلال، لذلك كان فضيلة فردية وخلقا ونسُكا 11. وقد أتى الزهد بمعنى الإعراض، والزهيد: الشيء القليل، فالأصلُ اللغوي واحد يدلُّ على قلَّة الشيء 12.

أما الفتنة فهي الاختبار، أو الابتلاء، أو الامتحان، وهي تستخدم في سياقات أخرى؛ منها: الكفر، أو الشرك، أو الجنون، أو العذاب، أو الإزالة، وهي في الاصطلاح “ابتلاءٌ حلَّ على فرد أو مجتمع في أمور دينهم أو دنياهم” 13، والله عز وجل يبتلي عباده بالخير: النجاة من الأسقام والأوجاع والكوارث… كما قد يبتلي عباده بالشر: نقص في الأموال والأولاد والثمرات…

ونخلص الى أن الورع والزهد قيمتان خُلقيتان نفسيتان وروحيتان رفيعتان، لكنهما عزيزتان كالكبريت الأحمر، صعبتا المنال كقمم الجبال الشوامخ، ومع ذلك، فقد أرضى بهما أقوام قلة؛ سبقونا إلى الدار الآخرة؛ الرب رغم العقبات الأنفسية والآفاقية المثبطة والمقعدة على اقتحام عقبات الإيمان إلى المرتقي في درجات الإحسان على مختلف الأمكنة والأزمان 14.

فهكذا كان الصحب الكرام، حين وعوا الدرس جيدا في الاقتحام، زمن صحبة خير الأنام الذي كان قرآنا يتلى على الأقدام، مشيا وقعودا وجنبا، فتشربوا حينها اقتحام عقبات التعلق بالدنيا، بالمال، وبالجاه الذي يصرفهم عن المرحمة 15، وبالأنانية المستعلية التي كادت تجعلهم يستكبرون عن خلق الله ثم عن الدخول في حصن الجماعة المجاهدة، وفي ظل الصحبة ليسمعوا النصيحة الغالية، حتى لا يغفلوا عنه سبحانه إذ يرانا، ولا ينسوا مخلوقيتهم إذ برأهم وهداهم النجدين، وجعل لهم شفتين ولسانا، ثم يجمعهم ليوم لا ريب فيه، فكانوا أهلا للزهد والورع، ونالوا درجة الكمال، وجمعوا إلى نورانية القلوب المتطهرة حمل الأمانة الرسالية إلى العالم 16.

لم يجدوا كبير عناء في فهم وتطبيق قوله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ. وقوله أيضا: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ. لقد وزنوا ذلك بميزان الشرع الذي فهموه وتلقوه حيا، عن طريق الصحبة، فكانوا المجاهدين الأخيار والزهاد الفطناء، ولم يكن زهدهم لقلة مال أو جاه أو سلطان، بل زهدوا فيها ورعا، بعد أن بسطت عليهم خيراتها شرقا وغربا وبرا وبحرا، نصرة للدين وصونا للعدل، كرامة الإنسان الذي شرفه المولى وكرما، ولا بد من الإشارة هنا الى أنه “لا ملازمةَ بين الزهد والفقر، فقد يكون الغنيُّ زاهدًا… وإنَّما الزاهِدُ عمر بن عبد العزيز؛ الذي أتتْه الدنيا فتركَها” 17.

لذلك ما حرص الصحابة على جمع المال إلا لأجل اقتحام عقبة فك الرقاب وإطعام المساكين، فهذا سيدنا عثمان رضي الله عنه يجهز جيشا كاملا، وآخر قدم نصف ماله أو شطره، وآخر قدم كل ماله فقيل ماذا أبقيت لأهلك؟ قال: الله ورسوله.

وما تقلدوا المناصب إلا لينصروا المظلوم ويوزعوا خيرات الأرض على المسلمين عدلا، ألم ينثر عبد العزيز الخليفة الخامس الحب على الجبال – بعد أن قضى على الفقر نهائيا وزوج العزاب من بيت مال المسلمين ـ حتى لا يقال قد مات طائر في أرض المسلمين جوعا وعطشا؟

وما ميزوا في الحقوق والواجبات بين ذمي وقبطي أو ذي قرابة وذي منصب أو مال خوفا وطمعا، بل حكموا بالعدل بينهم جميعا وقدموا المال والاعتذار الشديد لمن خُوف أو رُوع، فهم الأكياس الرحماء الأقوياء في الحق ولو على أنفسهم وذوي القربى، لم يخافوا في الله لومة لائم وإن كان جبارا متكبرا مستعليا.

ألم يكن سيدنا عمر بن الخطاب وهو أمير المؤمنين نموذجا فريدا في نبذ مظاهر الدنيا ومتاعها وزينتها؟ ألم يفرض “للمهاجرين الأولين أربعة آلاف، وفرض لابنه ثلاثة آلاف وخمسمائة، فقيل له: هو من المهاجرين، فلمَ نقصته؟ فقال: إنما هاجر به أبوه، يقول: ليس هو كمن هاجر بنفسه” 18، من الذي منعه من استغلال منصبه في خدمة مآربه الخاصة والتوسعة على عياله وتوزيع المناصب على أقاربه، ويتخذ الدابة المريحة والبيت الواسع والخدم وحراس الليل والنهار؟ بل من الذي جعله يخشى على نفسه من أن يصيب فضلا من المسلمين ولو كان بمسحة أصبع من طيب أو مسك أو عنبر، حين قال لزوجته: “إني أخشى أن تأخذيه هكذا، وأدخل أصابعه في صدغيه، وتمسحين عنقك، فأصيب فضلًا من المسلمين” 19؟

وقبله سيدنا أبو بكر، ألم يكن قمة شامخة في الورع والتقلل والزهد والحيطة والحذر؟ فمن الذي جعله يُدخل يده في فمه ليقيء كلَّ شيءٍ في بطنه 20؟ ألم يكن كافيا أن يتأول دون تحميل نفسه فوق طاقتها؟ بل من الذي جعله يقول عند احتضاره: “يا عائشة، انظري اللقحة (الناقة الحلوب) التي كنَّا نشرب لبنها، والجفنة التي كنَّا نصطبح فيها، والقطيفة التي كُنَّا نلبسها، فإنا كنا ننتفع بذلك حين كنا في أمر المسلمين، فإذا متّ فارْدديه إلى عمر” 21؟

– فما نصيبنا نحن من الزهد والورع في زمننا زمن الفتنة؟

– أنعرض عن الدنيا ونقعد دون كسب فنكون عالة على الناس؟

– أم نرتمي في أحضان الدنيا كسبا للمال من حله وحرامه بدعوى إعمار الأرض وبنائها؟

– ما السبيل إلى زهد وورع قلبيين لنكون أغنياء بما في أيدينا لا بما في أيدي الناس؟

– كيف نواجه فتنة المال والجاه والحرص عليهما؟

– أتفلح الضوابط الشرعية والمواعظ في ثنينا عن حب الدنيا والاغترار بها؟

– كيف تكون أموالنا الجامدة والمتحركة برهان صدقنا في طلب الزلفى عند رب العالمين؟

– المال مال الله ونحن مستخلفون فيه لينظر إلى فعلنا، أنسلط عليه الهلكة في رضاه أم في سخطه؟

– أيمكننا الحفاظ، كل في دائرته، على حِمى الله ندرأ عنها الشبهات؟

– كيف نجمع في هذا الزمان بين رعاية حق الله في صلاح قلوبنا، ومقاومة الفساد الذي عم الأرض والعباد؟

– كيف نحصل على طيب اللقمة لأن الله جل شأنه لا يقبل إلا طيِّبا ولا يسمع إلا من طيب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ 22. وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ 23. ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعثَ أغبر، يمد يديه إلى السماء. يا ربِّ! يا رب! ومطعمُه حرام، ومشربُه حرام، وملبسُه حرام، وغذِيَ بالحرام، فأنَّى يُستجاب له!” 24.


[1] يوسف القرضاوي، تيسير فقه السلوك في ضوء القرآن والسنة، في الطريق إلى الله: 5 الورع والزهد، ص: 6.
[2] شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب الدمشقي ابن قيم الجوزية، تهذيب مدارج السالكين، ص: ­265.
[3] ياسين عبد السلام، تنوير المومنات، ج 1، ص: 329.
[4] شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب الدمشقي ابن قيم الجوزية، تهذيب مدارج السالكين، ص: ­265.
[5] يوسف القرضاوي، تيسير فقه السلوك في ضوء القرآن والسنة، م. سابق.
[6] ينسب لابن عيينة، انظر جامع العلوم والحِكَم، ص: 274.
[7] الإمام الغزالي، الموسوعة الفقهية، ج43، ص112.
[8] رواه الترمذي. قال ابن حجر: “قوله: (يريبك) بفتح أوله ويجوز الضمُّ، يقال: رابه يريبه بالفتح، وأرابه يريبه بالضمِّ ريبة، وهي الشكُّ والتردد، والمعنى إذا شككت في شيء فدعه، وترك ما يُشَكُّ فيه أصل عظيم في الورع”.
[9] رواه الترمذي وقال حديث حسن .
[10] الأنعام، الآية: 91.
[11] ياسين عبد السلام، تنوير المومنات، ج: 1، ص: 329.
[12] أبي الحسين أحمد بن فارس بن زكري، معجم مقاييس اللغة، الجزء الثالث، ص: 30.
[13] رابط الموضوع https://www.alukah.net/sharia/0/112123/#ixzz5sS4j1sHD
[14] عن الأستاذ عبد السلام ياسين بتصرف.
[15] أفكار من كتب الأستاذ عبد السلام ياسين بتصرف.
[16] أفكار من كتب الأستاذ عبد السلام ياسين بتصرف.
[17] ينسب الكلام إلى مالك بن دينار.
[18] أخرجه البخاري.
[19] أخرجه الإمام أحمد في الورع. 
[20] أخرجه الطبراني في الكبير.
[21] أخرجه البخاري.
[22] سورة المؤمنون، الآية 52.
[23] سورة البقرة، الآية 172.
[24] أخرجه الترمذي، وأخرجه مسلم ولم يذكر الملبس، عن أبي هريرة رضي الله عنه، نقلا عن كتاب الإحسان ج: 2، ص: 129.