حينما اختار الإمام ياسين خط “الوضوح والعلنية” في إطار القانون
مما أصبح اليوم من البديهيات، أن القوانين التي تضعها الأنظمة الشمولية، مهما تطورت وارتبطت بالمنظومة الدولية لحقوق الإنسان، فإنها لا توضع حصرا لحماية مصالح الناس أو ضمان حقوقهم وحرياتهم، فقد يكون ذلك هدفا تابعا أو ظاهرا، لكنها في الحقيقة هي من أجل حماية هذه الأنظمة وضمان تحكمها في حياة الناس وتسهيل وصولها إلى ما يدور في الدولة والمجتمع باسم القانون، حتى إذا كان هناك من يسير عكس اتجاه هذه الأنظمة أصبح القانون سيفا مصلتا على عنقه، ويكون معطلا في أحايين أخرى إذا ارتبطت التجاوزات برجالات الدولة ومن والاهم.
لم يكن الأستاذ عبد السلام ياسين غافلا عن هذه الحقائق، بل كان خبيرا بها وهو من أمضى سنينا طويلة العدد في دواليب الدولة وفي مختلف درجات المسؤوليات، لكنه في الوقت نفسه لم يتخلف عن سلك السبل المتعارف عليها، امتثالا لما تمليه هذه القوانين الوطنية منها والدولية، وحتى لا يشكل استثناء برفض ما أصبح أُسَّا من أسس الدولة الحديثة اليوم.
الأستاذ ياسين ماضٍ في مشروعه والنظام يترصد “أسرة الجماعة”
إذا كان النظام الحاكم في المغرب يعرف ما لا يريد، فإن الأستاذ ياسين رحمه الله كان يعرف جيدا ما يريد ويعي ما يفعل. والشخص العاقل، كما تقول الفلاسفة، لا يحتاج إلى القانون ليجعله يتصرف بطريقة صحيحة، لكنه يحتاج إليه من أجل إقامة الحجة على أدعياء الديموقراطية ودولة الحق والقانون، الذين يجدون دائماً الطريقة المناسبة أو حتى غير المناسبة للمنع والحصار باسم القانون أيضا.
بعد تأسيس العمل الميداني المنظم في إطار “أسرة الجماعة” بدأت أنشطة هذه الأسرة وحركتُها تنمو وتكبر ويكبر معها حصار السلطة منذ البداية، وقد اتضح ذلك منذ أول مخيم تنظمه الجماعة شهر دجنبر 1981 بمنطقة الولجة (البئر الجديد) قبل تحوّله إلى رباط بدار الحاج إبراهيم الشرقاوي رحمه الله، بسبب المنع في اليوم الأول.
الأستاذ عبد الغني أولاد الصياد من الجيل المؤسس لعمل الجماعة، يحكي شهادته عن هاته المرحلة فيقول: “أول مخيم في دجنبر 1981 كان في الولجة، هذا المخيم نظمناه في خيم، وبعد يوم ونصف جاءت قوات الدرك الملكي وأرغمتنا على المغادرة، فغادرنا إلى الدار البيضاء وسط أمطار غزيرة على متن سيارة الأستاذ النقرة حفظه الله”.
السلطات رفضت جمعية أولى باسم “جمعية الجماعة” بعد انعقاد جمعها التأسيسي
لم يكتمل المخيم في المكان المحدد له بفعل منع السلطات، لكن ما يقارب عشرين فردا من الحاضرين فيه تمكنوا من الاستفادة من بقية فقراته بعد تحويله إلى رباط ليومين أو ثلاثة، في بيت الأستاذ عبد الهادي عبد الجبار بمدينة الدار البيضاء، وهو من الرعيل الأول للجماعة، ومن القيادات حينها بالمدينة.
يقول عبد الجبار في شهادته لنا عن هذا المنع، الذي كان من الأسباب الدافعة إلى تعجيل تأسيس العمل القانوني: “بعد انتهاء الرباط رجعنا إلى الإمام، فتحادثْنَا عن هذا المنع وأمثاله فسألنا: هل سنبقى على هاته الحال؛ كلما منعونا نجلس ونستسلم؟ لا بد من إيجاد حل”. هكذا قال لهم الإمام برواية المتحدث الذي أضاف: “قلنا ما العمل؟ قال: أسسوا جمعية”. فكان ذلك إيعازا واضحا بتدشين مسار آخر من المسارات التي تسعى إلى تأمين طريق المشروع الدعوي الجديد، والخروج به إلى بر الأمان، والاستمرار مهما كانت التكلفة والوسائل والظروف والعقبات…
شهر غشت 1982 اكتملت الترتيبات، فعقد الجمع العام التأسيسي لـ”جمعية الجماعة” التي رُفِضت، لكن الإمام ومن معه أعادوا الكَرَّة بعد سبعة أشهر، ووضعوا ملفا جديدا بعد عقد الاجتماع التأسيسي لجمعية ثانية باسم “جمعية الجماعة الخيرية” شهر مارس سنة 1983.
إعادة محاولة التأسيس القانوني بعد تحايل السلطات
إذا كان التحايل من قبل السلطات لمنع ملف الجمعية الأولى “جمعية الجماعة” دليلا على أن الديموقراطية ودولة الحقوق والقوانين مجرد شعارات للمزايدة والتجميل في هذا البلد قديما وحديثا، فإن إعادة المحاولة من جديد تبين مدى الإصرار والتمسك بالسبل القانونية في إطار عمل منهاجي واضح من قبل الإمام عبد السلام ياسين الذي حرص على الوضوح والعلنية، باعتبارهما من أبرز خصائص مشروعه المنهاجي.
وقد ألح الإمام ياسين رحمه الله على هاتين الخاصيتين إلى جانب أخريات، في وقت كانت فيه جل الفصائل الإسلامية وغيرها تفضل خيار السرية، فحرص وأصر على التأسيس القانوني لهذه الجماعة، في جمعية دعوية ذات بعد سياسي قبل أن تتخذ شعار “العدل والإحسان” بدءا من سنة 1987.
ولئن كانت “مجلة الجماعة” أول منبر تواصلي للإمام مع ذوي النيات الطيبة من العاملين للإسلام، ولئن كانت “أسرة الجماعة” هي أول محضن لهم، فيما رأيناه في الحلقات السابقة من هذه السلسلة، فإن “جمعية الجماعة الخيرية” هي الإطار الذي منح الشرعية القانونية في كيان هذه الحركة، ليدشن بها الإمام مرحلة جديدة في مسار الحركة الإسلامية عموما بعدما ألفت العمل في الظل وفي سراديب السرية والتوجس، وهو الأسلوب الذي جعلها عرضة لكل أنواع الاتهامات.
جمعية “تهتم بتوعية المنخرطين خاصة وأفراد الشعب المغربي عامة بحقوقهم السياسية”
عقدت الجمعية جمعها العام التأسيسي شهر مارس، ووضعت ملفها القانوني في النيابة العامة يوم 26 أبريل 1983، طبقا لمقتضيات الفصل 5 من الظهير المؤرخ بـ 3 جمادى الأولى 1378 الخاص بتأسيس الجمعيات. وقد جاء في وصل “الإشهاد” ما يلي: “إن الجمعية المسماة جمعية الجماعة الخيرية، قد وضعت نظيرا من القانون الأساسي ونسختين من لائحة أعضاء المكتب بهذه النيابة…”.
شكلت الجماعة إطارها القانوني، وعرّفت فيه نفسها بأنها جمعية “تهتم بتوعية المنخرطين خاصة وأفراد الشعب المغربي عامة بحقوقهم السياسية”، كما يشير إلى ذلك الفصل الثاني من قانونها الأساسي الذي ينص على أنها “جمعية ذات صبغة سياسية، وتباشر علاوة على ذلك كل الأنشطة الثقافية والاجتماعية والتربوية التي لا تتنافى مع هدفها الرئيسي”.
تأسست “جمعية الجماعة الخيرية” وتكونت لائحة أعضاء المكتب المسير لها من أعضاء مجلس الإرشاد إضافة إلى أعضاء آخرين؛ الأستاذ عبد السلام ياسين رئيسا للجمعية، والأستاذ أحمد الملاخ رئيسا للجنة التسيير ومعه فيها الأساتذة محمد عبادي وعبد الواحد متوكل ومحمد العلوي السليماني. في حين يرأس لجنة التنفيذ الأستاذ محمد بشيري، ومعه الأساتذة: فتح الله أرسلان وعبد الهادي عبد الجبار ومحمد النقرة.
الجماعة ربحت رهان العمل القانوني وأرست موازين قوة جديدة
تأسست الجماعة قانونيا وميدانيا وبدأت في الانتشار، وأسهم وضوح رؤيتها ومنهاج عملها في التعريف بها والتحاق أفواج من الشباب الغيورين على دينهم بها، إلى أن أصبحت عصية على المنع والحصار، رغم استمرارهما منذ أول يوم وما يزالان إلى يوم الناس هذا بأساليب متنوعة، فتشكلت بذلك موازين جديدة للقوة يتداخل فيها ما هو سياسي، قانوني، حقوقي، ميداني، واجتماعي…
ربحت الجماعة بعد تأسيس جمعيتها رهان العمل القانوني، لتتفرغ؛ بعد ذلك وأثناءه كما كانت قبل، لاستكمال البناء وتوسيع نواة الجماعة ووضع مؤسساتها المركزية والإقليمية، كي يتسنى للإمام رحمه الله مواصلة تربية رجال الجماعة ونسائها على خصال الإيمان والعمل والجهاد، في بناء متكامل الحلقات والمجالات التربوية والتكوينية والتنظيمية والسياسية…
فإذا قال قائل: إن الجماعة ليست قانونية، أو هي محظورة بوصف السلطة ومن يتبع روايتها، فإنه إما مدلسٌ قصدا، أو ضحيةٌ لتلك الرواية غير المبنية على الأساس القانوني، إلا أساس الإرادة السياسية الجامحة في محاربة أي صوت يقول “لا في وجه المخزن”.
ما يدعم ذلك، هو أن القضاء المغربي بمختلف محاكمه من الابتدائية إلى النقض، أصدر أحكاما وحسم جدل قانونية الجماعة، يقول المحامي الأستاذ محمد النويني في حديثه مع بوابة العدل والإحسان بهذا الخصوص: إن “جمعية الجماعة الخيرية” التي حملت شعار العدل والإحسان في مرحلة أخرى بعد تأسيسها، صرّحت بملفها لدى السلطة المحلية بالرباط، وأَشْهَد الوصل رقم 48/83 على إيداع نظير من هذا الملف لدى النيابة العامة بالمحكمة الابتدائية طبقا للفصل 5 من ظهير 15 نونبر 1958 المتعلق بتأسيس الجمعيات كما وقع تعديله وتتميمه بموجب ظهيري 10 أبريل 1973 و23 يوليوز 2002، الذي جاء فيه: “يجوز تأسيس جمعيات الأشخاص بكل حرية ودون سابق إذن، بشرط أن تراعى في ذلك مقتضيات الفصل 5”. فيما ينص الفصل 5 قبل تعديله سنة 2002 على التصريح بملف الجمعية، الذي يضم مجموعة من الوثائق إلى السلطة المحلية، والإشهاد بإيداع نسخة من الملف لدى النيابة العامة، التي يقع بدائرة نفوذها مقر الجمعية”، ومن ثمة فإن الجماعة استنفذت جميع إجراءات التأسيس.
القضاء يقول كلمته ويحسم جدل قانونية الجماعة
تابع النويني حديثه، فذكر أحكاما وقرارات كثيرة صدرت عن القضاء المغربي بمناسبة محاكمة مجموعة من أعضاء الجماعة سبق وأن توبعوا بـ “الانتماء إلى جمعية غير مصرح بها”، ومنها؛ القرار عدد 1871 الصادر عن استئنافية القنيطرة سنة 1990 وجاء في إحدى حيثياته: “حيث إنه من الثابت من أوراق الملف أن الجمعية المذكورة قد قامت بإيداع نظامها الأساسي بكتابة الضبط بالمحكمة الابتدائية بالرباط بتاريخ 26/4/1983 حسب الوصل المسلم بنفس التاريخ وذلك طبقا للكيفية المنصوص عليها في الفصل الخامس… الأمر الذي يفيد بأن تلك الجمعية قد أنشئت بكيفية صحيحة وتمارس نشاطها في ظل من المشروعية الواضحة، تزكيها المقتضيات القانونية المشار إليها، ويدعمها نظامها الأساسي الذي تم الإعلان عنه وإيداعه وفق مسطرة سليمة”.
وعلى الرغم من قانونية الجماعة ومشروعية أنشطتها ومجالسها، بمقتضى العشرات من تلك الأحكام والقرارات القضائية طيلة العشريات الأربعة السالفة، يقول رئيس الفضاء المغربي لحقوق الإنسان، فإن السلطة ما زالت تواصل التضييق على هذا التنظيم الذي يعمل بكل سلمية وحضارية منذ تأسيسه، ولا يعدو ذلك كونه: “محاولة يائسة لعزلها وتحييدها عن المجتمع، بباعث سياسي أكثر مما هو قانوني، بالنظر إلى كون الجماعة تصطف دائما وبوضوح منذ تأسيسها إلى جانب القضايا العادلة للشعب، وأنها صوت مزعج بانتمائها إلى حقل المعارضة والممانعة الجادة للسياسات العامة للنظام الحاكم في البلد”.
كان إضفاء الصبغة القانونية على حركة الجماعة، حلقة مهمة في مسارها قانونيا وسياسيا كذلك، ورغم ذلك فإنها، هي وأعضاءها، لم تسلم من التضييق والمراقبة والحصار والمنع، إلا أنها ظلت مستمرة في الوجود ولله الحمد ويحسب لها حساب في المشهد المغربي. ليتأكد أن القانون ليس هو وحده من أثبت حقها في الوجود والاستمرار، ولكنها فرضت نفسها بقوتها وقوة مشروعها ونباهة قيادتها وإصرار أعضائها، فضلا عن حضورها في الشارع وفي الفضاءات الجماهيرية، وفوق كل ذلك فقد حفظها الله تعالى بتوفيقه وعنايته ورعايته.