يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الزمر: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (آية 9)، وفي سورة آل عمران: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ، أي قدر هذا وأي بشارة للعلماء أن يذكروا إلى جانب اسم الله والملائكة؟ وأي مرتبة خصكم الله بها في الدنيا والآخرة إن شهدتم بالقسط وأقمتموه؟
فعلا، فالعالَم يقف اليوم بكامله ينتظر الفرج الذي يأتي به العلماء بإذن الله، وكأن الله يذكّر ويؤكد للأمة الإسلامية أن الغلبة والقيادة لممتلكي العلوم، فكما بدأت الرسالة الإلهية بدعوة رسول الأمة أن “اقرأ”، تعاد اللحظة أن نجاتكم أيها البشر في الدنيا والآخرة إن شاء الله باكتساب العلوم بعد العلم بالله، وأن قيادة العالم بها تكون.
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَات وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، والْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَماً، وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ». وكأن الكون كله يقف إكبارا للعلماء ولطالبي العلم؛ إنسه وجنه وملائكته، بما ينوّرون به عقول العباد وألبابهم، العقل الّذي خص الله به البشر دون غيرهم من الخلق، العقل ولب العقل “يمثل الإمام الغزالي رحمه الله العقل المتفتح، الباحث عن كماله، المتقدم إلى كل باب، يطرق الأبواب جميعا أينما خيل له أن هناك سراجا يستصبح به” (1).
أصل العلوم الكونية ورائدها
“العلوم الكونية اطلاع العقل المعاشي المشترك بين البشر، متفاوتين في ذكائه أفرادا، متقدمين أو متخلفين في مضمار فروسيته أمما وعصورا. العقل، العقل، العقل. كلمة يرددها الناس غيرَ عابئين بتعريف ما هو العقل الذي يتحدث عنه القرآن، وما مدلول العقل في ميادين المعاش. قلوب تفقَه عن الله، تعقل عنه تتلقى وحيه بالقَبول” (2).
فحضارة اليوم، حضارة الذرة والإعلاميات والصناعة والطب والهندسة و.. و.. و.. تتصارع لتملك الخبرة والسبق في الاختراعات لتسيطر على من هم أقل علما، تستورد عقول العرب والمسلمين وتستغل فقرهم وحاجتهم وضعف البحث العلمي ومراكزه لتستحوذ على هذه الطاقات وتحتكرها لصالحها، بعد أن كانت الريادة للمسلمين في العلوم كلها، وكان النصر لهم آنذاك، يوضح الإمام عبد السلام ياسين أصالة العلوم الكونية فيقول: (نأخذ الصيغة الأصلية لمفتاح العلوم الكونية من قلم ناطق أصيل باسمها. إنه الطود الشامخ في علوم الضوء والبصريات أستاذ الأجيال ورائد طريق سلكها من بعده جاليليو ونيوتن وبيكن، والتي هي الرهينة الكريمة لدى العقل العلومي الصائل في الدنيا، إنه ابن الهيثم الذي يقول: «نبتدئ في البحث باستقراء الموجودات، وتصفح أحوال المبصرات، وتمييز خواص الجزئيات، ونلتقط باستقراء خواص ما يخص البصر في حال الإبصار، وما هو مطرد لا يتغير، وظاهر لا يشتبه من كيفية الإحساس”، وقال: «ثم نترقى في البحث والمقاييس على التدرج والترتيب، مع انتقاد المقدمات والتحفظ في النتائج. ونجعل غرضنا في جميع ما نستقريه ونتصفحه استعمال العدل لا اتباع الهوى. ونتحرى في سائر ما نميزه وننتقده طلب الحق لا الميل مع الآراء”. عن كتاب «مناهج البحث عند مفكري الإسلام» للدكتور علي النشار، ص: 240 الطبعة الرابعة. وهو ينقل عن الأستاذ مصطفى نظيف، رحم الله الجميع” (3). أي انحطاط وصلنا إليه بتفريطنا في ما قضى فيه علماؤنا أعمارهم وكان لهم السبق؟
ويقول: “إن الحسن بن الهيثم الرازي وابن سينا الطبيب كانوا يمارسون عملهم في الحقل العلمي بكل حرية، بل الأكثر من ذلك أن ابن سينا الطبيب كان يتلقى دعما ماليا ومعنويا من السلطان، بل كان طبيب القصر أيضا”. حين تدعم الدولة والحاكم العلم والعلماء وتجعل شأنهم خاصا دون قيد أو شرط حينها نستحق القيادة والريادة.
ويشهد عالم شاهد بالقسط أن مصدر الحضارة الأوروبية هو منهج العرب التجريبي، ويؤكد أن الثقافة الإسلامية هي مصدر سمو العلم الأوروبي وازدهاره في علم النجوم والرياضيات وغيرها، ويوضح ذلك الإمام عبد السلام ياسين قائلا: “روجر بيكن الذي ينسبون إليه أمومة المنهج التجريبي رجل إنجليزي بارز في علوم زمانه درس في الأندلس، وكان رسولا من رسل العلوم، سعى بها وبآلتها التجريبية من بلد إلى بلد، ومن أمة إلى أمة. ولم يكفَّ مدى حياته عن الاعتراف بالفضل لذويه مؤكدا أن «معرفة العرب وعلمهم هما الطريق الوحيد لمعرفة الحق»، كما يقول الإنجليزي برفولت في كتابه «تكوّن الإنسانية». نقلته عن كتاب النشار رحمه الله. ويقرر الأستاذ بروفولت أن روجر بيكن درس العلوم العربية دراسة عميقة، وأنه ليس له فضل ولا لسميه فرنسيس بيكن في اكتشاف المنهج التجريبي في أوروبا.. ولم يكفَّ روجر بيكن عن القول بأن معرفة العرب وعلومهم هما الطريق الوحيد للمعرفة الحق. يكرر ذلك ويقرره لمعاصريه” (4).
عقل مسلم هو أول من وضع قوانين البحث العلمي ومارسها، ولم يشعر بحاجة إلى التخلي عن دينه، لأنه لم يكن مهزوما بل كان منتصرا، كلمة بليغة لمن يدعي ارتباط اكتساب العلوم ببلاد الكفر فيكفر أو يستنكر لدينه.
أين هو هذا العقل المستنير؟
هل اندثر مع تراجع المسلمين وهوانهم؟ لا، أبدا، العقل البشري مجبول على البحث والاستكشاف مسلما كان أو كافرا، لكن الذي غيّبه وعيّبه هو انشغال الدول المسلمة وعلى رأسهم حكامها بالاستهلاك والانقياد وراء الشهوات المنحطة فضيعوا الأصول التي كانت سبب عزتهم، في وطننا الحبيب أعلام ونوابغ نسمع خبرها من بلدان المهجر، ويحز في نفسنا أن نضيع كفاءاتنا بعدما يشتد عودها وتستعد لأن تعطي ثمارها فيجنيها غيرنا، وطن يجتهد معلموه ومربوه في تنشئة أفراده، وتخصص لهذا ميزانيات ضخمة وجهود جبارة، ثم يفرط في المتميزين منهم وهم علماء المستقبل بحجة عدم توفر متطلبات البحث العلمي وأجوائه، بأي فهم يتم تخطيط مستقبل البلاد؟
تكشف أرقام دراسة أجراها موقع روكريت المتخصص في مجال التوظيف أن %91 من الخريجين المغاربة يتمنون العثور على فرصة مهنية في الخارج، وتكون المؤسسات التعليمية المغربية 8000 إطار في مجال تكنولوجيا المعلوميات، فيغادر 20% منهم الوطن رغم توفر مناصب لهم والنسبة تزداد فيما بعد. وحتى في إطار التبادل الثقافي لا نجد تكافؤا. أرقام من شأنها أن تسائل هذا الوطن الحبيب عما ينتجه من سياسات، ليقف منتظرا أمام هذا الوباء من يمدّه بالعون ويغيثه، وقد نجد من أبنائه من يتصدرون البحث العلمي في بلاد المهجر. يا لحسرتنا!
(1) عبد السلام ياسين، محنة العقل المسلم، ص 86.
(2) عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، ط1، ج 2، ص 223 .
(3) عبد السلام ياسين، محنة العقل المسلم، ص 86.
(4) نفسه، ص 91. الرابط على موسوعة سراج.