تحقيق العدل الشامل
يرث الإسلاميون تركة ثقيلة يخلفها نظام الجبر لا يقوون على تحملها إن لم تكن الأمة معهم، وقد يخطئ البعض إذا ما ظن أنه بمجرد الوصول إلى الحكم فإن له القدرة على التصرف كما يشاء وباستطاعته ترتيب الأمور في مدة قصيرة. إن الأمة منخورة من كل الجوانب والفساد والكساد يعشش في كل هياكل الدولة، لا يستطيع أيا كان وإن كانت له قاعدة جماهيرية عريضة وشعبية مساندة أن يستمر في الحكم طويلا إذا ما استحضرنا كل المعطيات المحيطة داخليا وخارجيا وخصوصا إذا ما تم الاحتكام إلى قواعد اللعبة الديمقراطية، فسرعان ما تنقلب الجبهة الشعبية المساندة إلى معارضة عاصفة إذا ما تم تهييجها من طرف الإعلام المغرض.
. على المستوى الداخلي
لقد تنبه الأستاذ عبد السلام ياسين إلى مسألة مهمة جدا وهي مسالة “الميثاق”، وتكمن أهمية الميثاق في أنه أرضية يجتمع عليها كل الصادقين، إسلاميين وغيرهم، من أجل التعاون على مشاكل البلد، ثم إن الميثاق صمام أمان يجنب البلاد أي انزلاقات قد تحدث أثناء المرحلة الانتقالية بعد سقوط نظام الجبر.
في جو الحرية يجب أن يعلن كل فاعل سياسي عن توجهه دون مراوغة وأن يكون واضحا أمام الشعب وهذا شرط لنجاح الميثاق على أن تكون أرضية هذا الأخير إسلامية لأن الشعب لن يقبل بغير الإسلام ثم إنه لا أحد يمكن أن يزايد على الأمة في إسلامها.
كل ما تناولناه في هذه الفقرة هو مقدمات للعمل داخل القطر وما ينطبق على القطر ينطبق على دار الإسلام كلها حيث يكون الإسلام سيد الموقف ولكن دون إقصاء أي طرف إلا أن يتم عزله شعبيا، وسيقتنع آنذاك الكثير ممن يتمسكون ببضاعتهم التي استوردوها من الغرب أن بضاعتهم ليس عليها طلب.
إن ما يجب أن تعنى به الدولة قطريا أو بعد توحد الأقطار هو العدل لأن العدل أم المصالح التي يقصد إليها الشرع. هو صلب الدين، وحوله تُطيف هموم المسلمين، وبه بعث الله الرسل والنبيئين) 1 والعدل المنشود هو عدل يستقر به المجتمع، وتتضافر به الجهود، وتتوحد عليه الأهداف، وتسخر له الوسائل) 2 .
. على المستوى الخارجي
تعاني الإنسانية اليوم من قوى الاستكبار التي لا يهمها إلا الربح والربح السريع ولو على حساب القيم الإنسانية. لقد قادت هذه القوى العالم إلى المجهول من الاستعمار ونهب الشعوب إلى الحروب المدمرة إلى نشر القيم الدنيئة وكل هذا يتم بوحشية بالغة وفي أحسن الأحوال يتم تمريره (قانونيا) عبر مؤسسات دولية الغلبة فيها للأقوى.
بعدما يستعيد المسلمون وحدتهم وقوتهم يجب عليهم أن يفرضوا وجودهم في ساحة العلاقات الدولية وأن يقطعوا الطريق على المستكبرين ومخططاتهم حتى يتسنى للبشرية أن تسمع كلمة الإسلام بعد تحريرها من قيود الحضارة المنحلة.
توحيد الأمة
رغم أن الحديث عن وحدة الأمة جاء متأخرا أثناء العرض إلا أنه مهمة ملازمة للعمل الإسلامي منذ بدايته حيث يعمل الإسلاميون على التواصل مع بعضهم البعض مهما كانت مذاهبهم أملا أن يأتي الله تعالى بيوم تذوب فيه الفرقة وتردم الهوة التي اتسعت مع الانحدار الذي شهدته الأمة منذ انتقال الحكم من خلافة راشدة إلى ملك عاض، غير أن تأخير الحديث عن هذا الأمر مقصود حتى يستقر أكثر ما يستقر في ذهن القارئ العزيز لأن وحدة الأمة مطلب عزيز على الأمة.
. الحوار المفتوح
انتقضت وحدة الأمة رغم أن دار الإسلام بقيت موحدة حينا من الدهر، وزاد الفرقة قرون حكم العض لكنها ازدادت توسعا لما نجحت الثورة في إيران وأظهرت دويلات النفط لها العداء، ويا ليت هذا العداء كان انتصارا للصحب الكرام، ولم تتورع إيران أيضا عندما خذلت الجهاد الأفغاني. وليس هنا مجال للرجوع إلى هذا ولكن القصد هو التطلع إلى المستقبل ليكون أمر الوحدة مطلبا استراتيجيا يتم العمل من أجله.
المسلمون مطلوب منهم أن يحاوروا الجميع، وأحرى بهم أن يتحاوروا في ما بينهم، ولذلك يجب أن يجلس أولوا العلم العاملون ليضعوا قضية فرقة الأمة في سياقها التاريخي كي يضعوا وحدتها في سياق مستقبلي، لأن انتقاض الوحدة ليس أصلا في الإسلام بل جاء نتيجة لظروف تاريخية معينة يمكن تجاوز نتائجها السلبية إذا ما توفرت إرادات صادقة وأيضا الرؤية الإستراتيجية التي يكون أساسها الأمر الإلهي الذي يأمر المؤمنين بأن يكونوا جميعا ويعتصموا بحبل الله ولا يتفرقوا.
. الاجتهاد الجماعي
الدعوة والدولة متلازمتان بما يخدم الغاية الإحسانية عند الأفراد وبما يحقق العدل داخل الحدود وفي المجال العالمي أيضا، وفي جانب الدعوة ومؤسساتها موقع العلماء العاملين الذين يعملون على تربية الأمة وأجيالها، لكن لا يجب أن تصطدم الدعوة والدولة بحيث تصبح الدعوة عائقا أمام الدولة وتطورها أو تصبح هي في يد الدولة تستعملها لإملاء إرادتها على الناس، ولتحقيق هذا لابد أن يصبح الاجتهاد مسالة جماعية ليحقق هذا التوازن من جهة ومن جهة أخرى ليعمل على سد الثغرات التي حدثت في صف الأمة منذ زمن.
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين في هذه المسالة: في دولة الخلافة على منهاج النبوة يجب أن يكون الاجتهاد قضية جماعية، شورية. استفحل الواقع، وتفاقمت مشاكله، وأمعن في الشرود عن الدين، وتجاوز كل ما ورثناه من فقه حتى أصبح مناط الأحكام فيه لا يكاد يبين. من أين نمسك الواقع لندخله في حوزة الشرع، كيف نراوده، كيف نرغمه، كيف نتدرج إلى تطويعه؟ لا يستطيع المجتهد الفرد أن ينهض لذلك وحده مهما كان تمكنه من علوم الشريعة. لا بد من إشراك ذوي الاختصاصات المتنوعة، لابد من معاهد ترعاها الدولة الإسلامية يوم لا تكون الدولة جانية على الدين، يوم تكون دولة الشورى والعدل والإحسان) 3 .
خاتمة
أرسل الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم لهداية العالمين، والرسالة التي جاء بها كونية تصلح لكل زمان ومكان، ولقد التحق الرسول الكريم بالرفيق الأعلى والرسالة لمّا تصل إلى البشرية جميعها، لذلك فالأمة مستخلفة في هذا الأمر لتكمل ما بدأه الرسول صلى الله عليه وسلم ومشى عليه الخلفاء الراشدون رضوان الله تعالى عنهم وتوصل رسالة الإسلام إلى كل إنسان على وجه البسيطة. وبهذا تكتمل الوظائف الاستراتيجية ل”المنهاج النبوي” التي تم بسطها في التقديم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.