اليأس والإيمان والخلان
سئمت الحياة لم تعد لي رغبة للعيش فيها
عبارات من هذا القبيل كانت ترددها “نسمة” الفتاة ذات الثمانية عشر ربيعا، بعد أن نجت بقدرة إلهية من الموت حينما قررت الانتحار وألقت بنفسها من الطابق الخامس لإحدى البنايات.
لقد كانت أثناء الحوار معها عبر التلفزة كمن رجع إلى الموت بعد أن كان يظن أن ما ينتظره هو الحياة. عيناها الكئيبتان والمحاطتان بألوان الطيف إثر وقعتها من الأعلى، وجسدها الغض الكسير الملفوف في دوائر الجبص. كل ذلك يعكس الألم والحزن الذي عانته في حياتها القصيرة، صوتها الرقيق يخفي وراءه مرارة الحسرة ودموعها المتجمعة داخل جفونها، تطلقها مرة وتحبسها مرات، وحيدة حزينة لا تلوي على أحد ولا يلوي أحد عليها.
أواه، كيف ييأس الإنسان إلى هذه الدرجة بحياته، وكيف يزهد في أغلى هبة له بهذا الوجود، وما الذي يسوقه سوقا إلى الموت راغبا وهو أمَرُّ المصائب.
إنه ليس بين اليأس والأمل إلا ذلك الخيط الرفيع، وهو في حد ذاته أهم من الموت والحياة ذاتهما…إنه الإيمان.
لطالما تحدث المحدثون والعلماء والناس أجمعون عن سره وكيف يأتي وبم يذهب؟ فعندما يكسب الإنسان إيمانه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها، و إن لم يهيأ له من أسباب العيش الرغيد فيها، ومن فقده فكأنما ثلم في أهله وماله وكل عزيز عليه، وإن اليؤوس ليفقد إيمانه عندما تتكالب عليه الهموم والمصائب، ولا يجد لذلك معينا على نفسه في مصابها لأن الإنسان مجبول بطبعه على الضعف، وحيثما بقي وحيدا منعزلا كان فريسة للشيطان، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم “إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية” 1 ويقول عليه أزكى الصلاة والتسليم: “المؤمن للمؤمن كالبنيان, يشد بعضه بعضاً” 2
إن الذي يقوي الإيمان بعد ذكر الله هو ذلك الخل الذي يجعل المرء يثبت ويواظب عليه ويستشعر حلاوته في قلبه، فيمتليء يقينا وسعادة بالله رغم المصائب، إذ لاشيء يحلي الحياة كرفيق وأخ أو إخوة يحس معهم بمعنى المحبة، فإذا أحب تمسك بروحه وكان كالذي لا يعيش لنفسه وإنما يعيش لإخوانه وخلانه، لأنه لا يرى الحياة إلا من خلالهم، ولا يستشعر السعادة إلا في كنفهم، فهو يعيش في جنة الدنيا التي لا يعرفها إلا أهل الآخرة.
إنه لو كان لهته الفتاة الضائعة البئيسة أحد تطمئن إليه وتستعين به على نوائب الدهر وفواجعه وتبث إليه ما يخالج وجدانها، وترجع إليه إذا قفدت إيمانها وأملها، فلا تجده إلا ناصحا مقويا مثبتا لها، لما أجرمت في حق نفسها ذلك الجرم الشنيع، جرم قتل النفس التي حرمها الله إلا بحق.
لقد أصبحنا أمام عالم يهوج ويموج بالمكر والخديعة، والظلم والطغيان فلا يجد الإنسان لنفسه إلا أن يتمسك بمن يجعله ذا قلب قوي يصمد في وجه هذه الابتلاءات ويمنحه اليقين ويعلمه الرضا.
فما أحوج هذه الأمة إلى من يأخذ بيدها ويعرفها بربها، فتهون عليها مصائب الدنيا وضنكها، بل وتجدها منحة ربانية.