الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلا رَفَثَ ولا فُسُوقَ ولا جِدَالَ فِي الحَـــجِّ [البقرة: 197].
تشكِّل هذه الآية مَعلماً يفتح للمسلم باباً عظيماً في تنمية روح الجندية والانضباط. فهذه الرحلة المباركة تبدأ في مواقيت زمانية معلومة، ومن أماكن معينة، تعرف بالميقات المكاني للحج، ولا يجوز تجاوزها بغير إحرام إذا نوى العبد الحج أو العمرة، ومن تجاوزها فإنه يجب عليه أن يعود إليها ويحرم منها، وإلا فعليه دم يذبحه ويوزعه على فقراء الحرم.
من هذه الشعيرة الخاصة يمكننا أن نضع أيدينا على مغزى بعيد لها، وبُعْدٍ تربوي تستشعره النفس من خلال تدبرهـا، وهـو أن يتعود المسلم دوماً أن لكل عمل ولكل أمر حدوداً معينة لا يجوز تجاوزها، بل إن تجاوزهـا قد يكون من الخطورة بمكان؛ حيث ينعكس أثره على صحة العمل نفسه، وقبوله عند الحق سبحانه.
وهذا المغزى الانضباطي التربوي البعيد يكاد يكون سمة بارزة من سمات المنهاج النبوي التي يُربَّى المسلم عليها؛ حيث توجِد عنده هذه الروح، وينميها في حسه، فتعوِّده على حب النظام والانضباط، والطاعة للأوامر، والتزام حدود كل عمل فلا يتجاوزه، وهي كلها جوانب تندرج تحت صفات الجندية المنشودة في جند الله. وكذلك كانت روح كل الشعائر والأعمال الخاصة بركن الحج.
وتدبر كيف أن لهذا الركن العظيم أركاناً أربعة هي: الإحرام، وطواف الإفاضة، والوقوف بعرفة، والسعي بين الصفا والمروة؛ فمن ترك ركناً لم يصح حجه، ولا يتم إلا به.
وتدبر أيضاً أن لهذا الركن واجبات؛ فمن ترك واجباً فعليه دم لفقراء الحرم. وهي أيضاً روح كل العبادات والشعائر.
وكذلك كانت روح علاقات المسلم كلها. فسلوكه مع ربه، وسلوكه مع نفسه، ومع أهله له ضوابط محددة، وهي حقوق في عنقه: “إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه” 1.
من هنا نخلص إلى أن الانضباط والتزام حدود الله تعالى من صفات المسلم الحق. وعكس هذا هو عدم النظام والتسيب، والمخالفة، والتعدي. بل إن تلك القضية لها آثار خطيرة داخل النفوس وكذلك داخل الصف.
يخلع الحاج ثيابه التي يلبسها، ويرتدي ثياب الإحرام، وهي تتكون من رداء وإزار أبيضين نظيفين، أما المرأة فتلبس ما شاءت من الثياب المباحة غير ثياب التبرج والزينة، ويستحب للإحرام الاغتسال والتطيب ونظافة الملبس. وإذا أحرم المسلم كان عليه أن يرفع صوته بالتلبية: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك). ثم يلتزم باجتناب محظورات الإحرام المعروفة.
وبتدبرنا لعملية الإحرام نجدها ترمز إلى معنى رفيع وهو قضية جهد الإنسان في التغيير وفعاليته في صنع الأحداث، فشرارة البداية في التحولات الحضارية، هي محاولة تغيير النفس: إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد: 11].
ومع أن التغيير المنشود هو التغيير الداخلي أي تغيير النفس والجوهـر الإنساني، ورغـم أن الحق سبحانه لا يعامل الناس بظواهرهم: “إن الله لا ينظر إلـى أجسامكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم” 2، إلا أن البعد التربوي للإحرام يوجهنا إلى منحى آخر مهم، وإلى دلالة عظيمة هي: أن من أراد التغيير الداخـلي فلا يهمل التغيير الخارجي؛ فالإنسان كلٌّ لا يتجزأ، وأي خلل ظاهري له تأثير بعيد داخلياً؛ كما أشار إلى ذلك الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: “لا تختلفوا فتختلف قلوبكم” 3 فلذلك نهتم بتسوية الصفوف، خوفاً من تأثيرها على بواطننا: “لَتُسَوُّنَّ صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم” 4.
والإحرام رمز للانسلاخ من مرحلة إلى أخرى، ويعتبر عهداً بين المسلم وربه، وتأكيداً على صدق نية التغيير والالتزام بذلك ظاهرياً بلبس الإحرام، وإعلان ذلك برفع الصوت بالتلبية حتى يعلم الناس جميعاً بهذا الميثاق، وبتوابعه: فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلا رَفَثَ ولا فُسُوقَ ولا جِدَالَ فِي الحَجِّ، بل إن البعد التربوي لهذه التلبية ودلالاتها نستشعرها من تدبر قوله صلى الله عليه وسلم: “ما من ملبٍّ يلبي إلا لبَّى ما عن يمينه وشماله من شجر وحجر حتى تنقطع الأرض من هنا وهنا ـ يعني عن يمينه وشماله” 5.
وتدبر ذلك النداء ورفع الصوت بالتلبية وأثره الكوني والباطني، وتواصله مع ذلك النداء الذي رفـعه مؤسس هذا المشروع العظيم الخليل عليه السلام عندما أمره الحق سبحانه أن يؤذن في الناس، فيبلغهم ويدعوهم، ووعده بالإجابة: وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج: 27] (أي نادِ في الناس بالحج داعياً إياهم إلى الحج، إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه، فذُكِر أنه قـال: يـا رب كـيـف أبلغ صوتي ولا ينفذهم؟ فقال: نَادِ وعلينا البلاغ. فقام على مقامه ـ وقيل: على الحجر، وقيل: على الصفا، وقيل: على أبي قبيس ـ وقال: يـا أيها الناس! إن ربكم قد اتخذ بيتاً، فَحُجُّوه. فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجـاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك) 6.
ومن هنا ندرك كم لهذا العمل العظيم من أعمال الحج من آثار كونية! وكم له من آثار باطنية تأخذ بتلابيب النفس، ويتراقص لها القلب لهفة وحباً وشوقاً! وذلك استجابة لدعاء الخليل عليه السلام الذي رفعه ذات يوم من أيام هذا المشروع العظيم: رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ [إبراهيم: 37].
لذا فهو إعلان مادي بالالتزام والتحول من الماضي بكل سلبياته والدخول إلى مستقبل الأمة المنشود، مستقبل الخلافة الثانية على منهاج النبوة من خلال بوابة الحاضر. والدعاة العاملون الشاهدون لله بالقسط يعون جيداً مغزى هذا العمل، ودلالاته الكثيرة، وأهمية تلك النقلة، والعبور من مرحلة التفلُّت إلى مرحلة العمل من أجل أداء هذه الشعيرة الإسلامية الكبرى.