خلق الله تعالى الإنسان ليكون خليفة في الأرض، وهيأ له من أسباب الهداية ما يعينه على حمل الأمانة، فبعث الرسل وأنزل معهم الكتب، وكان القرآن الكريم خاتمتها، أنزله على عبده ليُخرج به الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الهدى، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ الله بكم لَرَءُوف رحيم [الحديد: 9].
استمسك السلف الصالح بالقرآن الكريم والتمسوا منه الهدى، وحولوا آياته إلى منهج حياة متكامل، وحكموه في جميع شؤونهم، صغيرها وكبيرها، خاصها وعامها؛ فكان القرآن مصدر عزهم وشرفهم، فأصبحوا سادة للأمم بعد أن كانوا رعاة للإبل والغنم، و”بالقرآن ابتنيت نفوس مؤمنة، ومجتمع مؤمن، وحركة في العالم إيمانية. بالقرآن عرف أهل القرآن الله عز وجل، وبه استناروا في سلوكهم النفسي ومعراجهم الروحي في معارج الإيمان. وبالقرآن كانوا القوة التي حطمت باطل الشرك، وبه أقاموا العدل” [1].
وما إن هجرت الأمة كتاب ربها وتخلت عن حمل رسالتها وتغربت عن دينها حتى ذاقت الهوان وتلاطمتها أمواج الفتن، واسْتُبيحت حرمتها، وما من سبيل للرجوع إلى عزتها وشرفها إلا بالرجوع للقرآن الذي وضع الأسس الكفيلة بالمحافظة على دينها الذي هو عصمة أمرها، ودنياها التي فيها معاشها، وآخرتها التي إليها معادها.
إن هجر القرآن في واقع الأمة قد اتخذ أشكالا وصورا وليس على درجة واحدة، يقول ابن القيم في فوائده ملخصا هذه الصور: “هجر القرآن أنواع: أحدها: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه، والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وآمن به، والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه… والرابع: هجر تدبره وتفهمه… والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها” [2].
للاهتداء بالقرآن والاستبصار به لابد من تحقيق الوصال ونبذ كل هجران وإن كان في أدنى صوره، وهذا يعني أن يتعهده المسلم تعلما وعملا به وتعليما؛ هذه ثلاثة مستويات مترابطة فيما بينها لا غنى عن أحدها لمن رام الخيرية التي بشر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: «خَيرُكُم من تعلَّمَ القرآنَ وعلَّمَهُ» (رواه البخاري)، ولكل مستوى تجلياته وسبل تحقيقه وفضله وأجره من الكتاب والسنة، وهذا ما سنفصل فيه في مقالات قادمة بإذن الله.
[1] القرآن والنبوة، عبد السلام ياسين، ص: 14.
[2] الفوائد، ابن القيم، ص: 112.