في مقالة سابقة، أشرنا إلى أن الاهتداء بالقرآن يقتضي صحبة ووصالا، تعلما وعملا وتعليما، وبهذا الجمع تتحقق فينا الخيرية التي بشر بها المصطفى عليه الصلاة والسلام؛ “خيركم من تعلم القرآن وعلمه” [1].
سنتناول في هذه المقالة المستوى الأول من هذه الصحبة القرآنية، ألا هو تعلمه الذي يندرج فيه تلاوة حروفه والإنصات لآياته وفهم معانيه وتدبره واستظهاره، وحتى لا يطول الحديث نجعل لكل فرع من هذا المستوى مقالة، ونبدأ بتلاوته التي سنعرف بمعناها وفضلها وآدابها.
معنى التلاوة
التلاوة في اللغة: اتباع بعض الشيء بعضا [2]، ويقال: تلوته إذا تبعته، ومنه تلاوة القرآن، لأنه يتبع آية بعد آية [3].
وفي الاستعمال القرآني جاءت التلاوة بمعنيين:
– المعنى الأول: القراءة؛ ودل عليه قوله تعالى: فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران: 93]؛ ويشهد له حديث عبد الله بن عمر [4]، وقوله تعالى: يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ [آل عمران: 113]. وقوله تعالى: إِنَّ ٱلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَٰبَ ٱللَّهِ [فاطر: 29].
– المعنى الثاني: الاتباع؛ “وذلك يكون تارة بالجسم وتارة بالاقتداء في الحكم” [5]، ودل عليه قوله تعالى: وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا [الشمس: 2] وقوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ [البقرة: 121]؛ أي «يتبعونه حق اتباعه» كما قال ابن عباس [6]، وحقيقة الاتباع هي العمل بما جاء فيه بامتثال أوامره ونواهيه والاعتبار بقصصه وأمثاله.
وما يعنينا في هذه المقالة هو المعنى الأول؛ أي تلاوة القرآن باللسان أو التلاوة اللفظية.
فضل تلاوة القرآن
فرض الله على الجوارح عبودية الطاعة، ولكل جارحة ما يناسبها من تكاليف تلتزم بها من جهة الأمر بالفعل أو بالترك، وللسان عبوديته ضابطها قوله تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18]، وتتعدد مظاهرها وتتفاوت درجاتها، وتلاوة القرآن بآدابها من أجلِّ القربات إلى الله عز وجل؛ فهذا خبّاب بن الأرتّ يوصي جارا له بقوله: “إن استطعت أن تقرّب إلى الله فإنّك لا تقرّب إليه بشيءٍ أحبّ إليه من كلامه” [7].
كما أن الإيمان بالقرآن الكريم من صفات المتقين وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ (الآية) [البقرة: 4]، وشتان بين مؤمن يقرأ القرآن وبين من لا يقرؤه وإن حصل له مسمى الإيمان، فقد جاء في الحديث أن “مَثَلُ المُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَلِ الأُتْرُجَّة [8]، رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ المُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ، لَا رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ” [9] (الحديث).
لهذا؛ يحرص المؤمن على أن يكون له ورد يومي من تلاوة القرآن، أقله حزبين ويزيد حسب طاقته؛ فقد جاء في السنة استحباب ختم القرآن في كل شهر، إلا أن يجد من نفسه قوة فليختم كل أسبوع، ويفضل أن لا ينقص عن هذه المدة، ليحصل التدبر والتفكر، وكيلا يُحمِّل النفس فوق طاقتها لأن المطلوب هو المداومة والاستمرار، ففي الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: “قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اقرأ القرآن في شهر، قلت: أجدُ قوة، حتى قال: فاقرأه في سبع، ولا تزد على ذلك” ثم قال عمرو بعد أن أدركه الكِبَرَ: “فليتني قبلتُ رخصة رسول الله” [10].
يقول النووي عن القدر المطلوب من التلاوة اليومية: “المختار أن ذلك مختلف باختلاف الأشخاص، فمن كان يظهر له بدقيق الفكر لطائف ومعارف فليقتصر على قدر يحصل له معه كمال فهم ما يقرأ، وكذلك من كان مشغولا بنشر العلم أو فصل الحكومات أو غير ذلك من مهمات الدين والمصالح العامة، فليقتصر على قدر لا يحصل بسببه إخلال بما هو مرصد له، ولا فوات كماله، وإن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حد الملل أو الهذرمة في القراءة” [11].
وردت في فضل تلاوة القرآن نصوصا كثيرة لو علمها المؤمن وتشوّفت همته إلى تحصيل تلك الفضائل ما ترك كتاب ربه من بين يديه؛ يتلوه آناء الليل وأطراف النهار، فلا بد من أن يحرص كل مؤمن ومؤمنة على أن يكون له ورد يومي لا يفرط فيه وإن تزاحمت الأشغال، ولا يتكاسل عن القيام به بل يجعله أول ما يفتتح به يومه ليكون له بركة وزادا يستعين به على مشاق الحياة.
نذكر من هذه الفضائل ما يلي:
– زيادة الإيمان
الإيمان يزيد وينقُصُ كما جاء بذلك الوحي وأهم ما يزيده تلاوة القرآن، “والعكوف عليه مدار طب القلوب وإعدادها لتمتلئ إيمانا” [12]، يقول سبحانه وتعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً [الأنفال، 2]، زيادة لا يتوقف أثرها عند الأفراد ولكنه يشمل المجتمع بأكمله، فهو روح إن سرت في جسم الأمة استعادت عافيتها وانصلح حالها.
كان السلف الصالح يتفقد حلاوة الإيمان في تلاوة القرآن ويوصون بذلك؛ يقول الحسن البصري رحمه الله: تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء، في الصلاة، وفي الذكر، وفي قراءة القرآن، فإن وجدتم، وإلا فاعلموا أن الباب مغلق” [13].
– تحصيل الأجر العظيم
عن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول {الم} حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف” [14].
وعن عقبة بن عامر – رضي الله عنه – قال: خرج علينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ونحن بالصفة، فقال: «أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي بناقتين كوماوين في غير إثم ولا قطيعة رحم» فقلنا: يا رسول الله! كلنا يحب ذلك. قال: «أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم أو فيقرأ آيتين من كتاب الله – عز وجل – خير له من ناقتين وثلاث وأربع خير له من أربع ومن أعدادهن من الإبل» [15].
– تنزل السكينة
عن البراء بن عازب – رضي الله عنه – قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط بشطنين فتغشته سحابة فجعلت تدور وتدنو، وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – فذكر ذلك له فقال: “تلك السكينة تنزلت للقرآن” [16].
وقد وردت أحاديث نبوية شريفة تحث على قراءة سور وآيات معينة من القرآن الكريم وعلى المداومة على تلاوتها وجعلها وردا يوميا من أجل التحصين والحفظ والنجاة من أنواع الأذى، وتفريج الكربات والمغفرة ورفع الدرجات [17].
آداب تلاوة القرآن
ينبغي للقارئ أن يتأدب بجملة من الآداب عند تلاوته كتاب الله تعالى نذكر طرفا منها مجملا، ومن أراد التفصيل فعليه بكتاب التبيان في آداب حملة القرآن للإمام النووي رحمه الله فإنه قد أفاض في ذلك وأجاد.
مما يجب أن يكون حاضرا في اتصال المؤمن بكتاب ربه؛ الطهارة بشقيها المعنوي والحسي. فمن جهة؛ يحرص القارئ على إخلاص النية لله تعالى فيبتغى به الآخرة ولا يقصد به غرضا من أغراض الدنيا، كما هو الشأن في كل عمل صالح، ويعمل على صلاح القلب وطهارته عن طريق الذكر والتسبيح والاستغفار، والإنابة إلى الله “حتى يستنير القلب وتزول قساوته ويوقى شحه، فيتأهل لتلقي كلام الله عز وجل بالسماع الخاشع والنية التنفيذية؛ يقول سيدنا وابن سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: “أوتينا الإيمان قبل القرآن، وأنتم أوتيتم القرآن قبل الإيمان فأنتم تنثرونه نثر الدقل» والدقل رديء التمر…” [18]، وهذا عثمان رضي الله عنه يقول: “لو أن قلوبنا طهرت ما شبعنا من كلام ربنا، وإني لأكره أن يأتي علي يوم لا أنظر فيه إلى المصحف” [19].
ومن جهة أخرى، يحرص المؤمن على التطيب والتطهر ونظافة الفم بالسواك، وأن يكون على هيئة حسنة ولباس حسن، مستقبل القبلة، وفي مكان طاهر يليق بالقرآن الكريم.
ولكي يحصل الانتفاع بتلاوة القرآن لابد من خضوع القلب وخشوعه وانصراف جميع الحواس لما يُقرأ من القرآن، فلا يذهب القارئ مسترسلا مع خواطره، منصرفا عن تدبره والتذكر به، ولا يقطع القراءة بكلام من غير حاجة.
ومن آداب القراءة كذلك؛ أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم عند البدء بالقراءة، وأن يقف عند آية الرحمة فيسأل الله من فضله، وعند آية العذاب والوعيد فيستجير بالله منه، وعند آية التسبيح فيسبح، وأن يزين القرآن بصوته قدر ما استطاع، ولا يسرع في التلاوة التي تؤدي إلى تخليط كلماته فتذهب بحلاوته وتمنع أثره في النفس.
نكتفي بهذه الآداب، ولبها التعظيم لكلام الله تعالى واستشعار معيته، فكلما أحْسنا الإقبال على القرآن الكريم وأكثرنا من تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، فسنجد لذة المناجاة، وستشرق قلوبنا بنور القرآن وتسكن النفس، وتنجلي الأحزان، وتذهب الهموم.
[1] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب: خيركم من تعلم القرآن وعلمه، رقم الحديث: 4739.
[2] معاني القرآن وإعرابه، الزجاج (ت: 311هـ)، تحقيق: عبد الجليل عبده شلبي، دار النشر: عالم الكتب – بيروت، ط 1 /1408ه-1988م، 1 /459.
[3] مقاييس اللغة، ابن فارس (ت: 395ه)، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، الناشر: دار الفكر، عام النشر: 1399ه – 1979م، 1/ 351.
[4] عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: “أن اليهود جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا، فقال لهم: كيف تفعلون بمن زنى منكم؟ قالوا: نحممهما ونضربهما، فقال لا تجدون في التوراة الرجم؟ فقالوا: لا نجد فيها شيئا؛ فقال لهم عبد الله بن سلام: كذبتم فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، فوضع مدراسها الذي يدرسها منهم كفه على آية الرجم، فطفق يقرأ ما دون يده وما وراءها، ولا يقرأ آية الرجم؛ فنزع يده عن آية الرجم، فقال ما هذه؟ فلما رأوا ذلك قالوا: هي آية الرجم فأمر بهما فرجما قريبا من حيث موضع الجنائز، عند المسجد فرأيت صاحبها يجنأ عليها يقيها الحجارة”؛ أخرجه البخاري في صحيحه، سورة آل عمران، باب: قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، رقم الحديث: 5456.
[5] المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، (ت: 502)، تحقيق: صفوان عدنان الداودي، ذار النشر: دار القلم، الدار الشامية -دمشق بيروت، ط 1 /1412، ص: 167.
[6] جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري (ت: 310)، توزيع: دار التربية والتراث-مكة المكرمة، 2 /568.
[7] المصنف في الأحاديث والآثار، ابن أبي شيبة (ت 335 هـ)، تقديم وضبط: كمال يوسف الحوت، الناشر: (دار التاج – لبنان)، (مكتبة الرشد – الرياض)، (مكتبة العلوم والحكم – المدينة المنورة)، ط 1/ 1409ه-1989م، 6 /135.
[8] ثمرة طيبة الرائحة والمذاق.
[9] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأطعمة، باب ذكر الطعام، رقم: 5427. ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضيلة حافظ القرآن، رقم: 797.
[10] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب: في كم يقرأ القرآن، رقم الحديث: 4767، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر، رقم الحديث: 1159.
[11] الأذكار، النووي، تحقيق محيي الدين مستو، دار ابن كثير ط 3 /1412 هـ، ص 188. والهذرمة: السرعة في الكلام والمشي، ويقال للتخليط: هذرمة.
[12] المنهاج النبوي، عبد السلام ياسين، ص 161.
[13] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، ابن قيم الجوزية (ت: 751ه)، المحقق: محمد المعتصم بالله البغدادي، الناشر: دار الكتاب العربي – بيروت، ط 3 /1416ه-1996م، 2 /396.
[14] رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، في ثواب القرآن، باب ما جاء فيمن قرأ حرفا من القرآن ماله من الأجر، رقم الحديث: 3910، ورواه أيضا الدارمي وغيره.
[15] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن في الصلاة وتعلمه، رقم الحديث: 803، وبطحان: موضع بالمدينة، والعقيق: واد بالمدينة، والكوماء: الناقة عظيمة السنام.
[16] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب نزول السكينة لقراءة القرآن، رقم الحديث: 795، والشطن: الحبل.
[17] نخصص لها إن شاء الله مقالة حتى لا يطول الحديث.
[18] إمامة الأمة، عبد السلام ياسين، 145.
[19] شعب الإيمان، البيهقي (ت: 458ه)، حققه وراجع نصوصه وخرج أحاديثه: د. عبد العلي عبد الحميد حامد، الناشر: مكتبة الرشد للنشر والتوزيع بالرياض بالتعاون مع الدار السلفية ببومباي بالهند، ط 1 /1423ه-2003م، 3 /510.