ينبغي أن تبقى مع كل مسلم ومسلمة بعد رمضان معاني وروح عبادة الصيام، والتي من أبرزها هو أخذ أوامر الله ونواهيه على محمل اليسر الإلهي والرفق الرباني بخلقه، مصداقا لقوله تعالى “الله لطيف بعباده” سورة الشورى الآية 19، إذ الأصل في ديننا هو التيسير ورفع الحرج لا التعسير والمشقة. وقد وردت في ذلك آيات قرآنية كثيرة وأحاديث نبوية شريفة عديدة، مثل قوله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا، وقال جل وعلا: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ، وقال جل جلاله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا، ويقول صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ»، وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ»، وقال: «إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ».
تعبد الله عباده المؤمنين بالامتناع عن إتيان شهواتهم الحلال من طيب الطعام وشهوة الفرج في عدة من أيام مقدارها شهر كامل من السنة هو شهر رمضان، وقد جاء أمر الله تعالى بهذه العبادة المفروضة متكررا في آيتين متتاليتين من آيات سورة البقرة، أولاها بصيغة الجمع في قوله عز وجل يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون الآية 183، وثانيها وردت بصيغة مفردة ملزمة لكل مسلم عاقل بالغ شهد الشهر غير مريض ولا مسافر يقول الحق سبحانه وتعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون.
مما يثير انتباه القارئ المتأمل في هذه الآية الكريمة هو تأكيد إرادته سبحانه وتعالى بعباده اليسر ودفع العسر عنهم في ختام هذه الآية العظيمة التي تم من خلالها فرض ركن صيام شهر رمضان الذي يعد من أهم أركان الإسلام إلى جانب الصلاة والشهادتين والزكاة والقدرة على الحج. ذلك أن ظاهر هذه العبادة المفروضة على المسلمين هو المشقة والعسر والحرج، وهو ما ينافي حقيقتها وجوهرها وحكمة الله من تشريعها.
جاء الخطاب القرآني في هذه الآية بصيغة المضارع يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر التي تفيد الاستمرار في الزمان، وهو ما يعني أن الغاية من صوم شهر رمضان هو اطمئنان عباد الله إلى رحمته ورأفته سبحانه، بل وأن يترسخ هذا الاعتقاد في قلب وعقل وسلوك المؤمنين الصائمين الطائعين المطيعين. يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في تفسيره في ظلال القرٱن: “وهذه هي القاعدة الكبرى في تكاليف هذه العقيدة كلها، فهي ميسرة لا عسر فيها، وهي توحي للقلب الذي يتذوقها بالسهولة واليسر في أخذ الحياة كلها، وتطبع نفس المسلم بطابع خاص من السماحة التي لا تكلف فيها ولا تعقيد. سماحة تؤدي معها كل التكاليف وكل الفرائض وكل نشاط الحياة الجادة، وكأنما هي مسيل الماء الجاري، ونمو الشجرة الصاعدة في طمأنينة وثقة ورضاء، مع الشعور الدائم برحمة الله وإرادته اليسر لا العسر بعباده المؤمنين.”
من التيسير الظاهر في هذه الآية الكريمة هو إباحة الفطر للمريض والمسافر إضافة إلى الحامل والمرضع والحائض والنفساء، وهو رخصة من الله وتخفيف على عباده في حال العذر والمبرر الشرعي. كما أن إسقاط هذا التكليف الشرعي لم يرد صريحا في القرٱن الكريم في ركن أساسي من أركان الإسلام سوى في عبادة الصوم الموقوتة بشهر معلوم من السنة وبكيفية محددة. وما ذلك إلا لكون شريعتنا الإسلامية يسرى لا عسرى. يقول الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى: ” أمرنا في الدين بالتيسير والتبشير، فهذا رفق يقابله عنف فقيه يكفر المسلمين، وداع لا يفتح أبواب التوبة، ومشتاق لحكم الإسلام يتصوره ويصوره وجها حانقا، وسيفا مصلتا، وقلوبا لا ترحم.”
إن إدراك العبد لمراد مولاه من تيسيره له وعليه في أوامره ونواهيه، في عبادة الصوم وغيرها من الطاعات والعبادات، يريد قلبا خاشعا متعلقا بربه ونفسا مطمئنة راضية مرضية يسلكان بالمرء سبل السلام التي تبلغه الدرجات العلى عند ربه دنيا وٱخرة، وتجنبانه طرق الضلال والغي التي تهدم الدين والدنيا. وهذا هو الزاد المرجو نيله وتشربه من قربات شهر رمضان وبركاته والتي لا حد لها.
فاللهم يسر أمورنا ولا تعسرها واجعلنا من الميسرين غير المعسرين، المبشرين لا المنفرين.