بعض معالم التدين السليم زمنَ الفتنة (2).. التكسب الحلال

Cover Image for بعض معالم التدين السليم زمنَ الفتنة (2).. التكسب الحلال
نشر بتاريخ

مقال مشترك بقلم: محمد كمال / حسن وفيقي / عبد القادر فرطوطي

المعلم الثاني: التكسب الحلال

تمهيد

يعتبر التكسب (الكسب الكاد)، أي العمل اليدوي -المهني، الحرفي-، من أساسيات التدين السليم. فقد كان الأنبياء والرسل، مع مهمة الدعوة إلى الله، يمارسون العمل اليدوي، طلبا للرزق. فهذا زكرياء عليه الصلاة والسلام، كان محترفا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كان زكرياء نجارا” [1]. وفي سيدنا داود قال سيدنا محمد صلى الله عليهما وسلم: “إن داود عليه السلام كان لا يأكل إلا من عمل يده” [2].

وكان النبي صلى الله عليه وسلم، قدوة في طلب الرزق عن طريق الحلال. كان يَرْعَى الغنم، وعمل في التجارة. وكان يحض على التكسب، ويعلم أصحابه أن العمل اليدوي عبادة وجهاد.

عن كعب بن عُجرة قال: مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فرأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من جلده ونشاطه ما أعجبهم، فقالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله، وإن خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على نفسه يَعِفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج رياء وتفاخرا فهو في سبيل الشيطان” [3].

وما أحوجنا في هذا العصر، الذي نرث فيه “أشد الأوبئة الاجتماعية فتكا، أنفة الناس عن الأعمال اليدوية والكسب الكاد” [4]، إلى العمل اليدوي، في الإطار المشروع، والآداب اللازمة.

1- تعريف التكسب

 جاء في “تاج اللغة وصِحاح العربية” للجوهري: (تَكَسَّبَ: تَكَلَّفَ الْكَسْبَ. الكَسْبُ: طلب الرزق). وبذلك يكون معنى التكسب: طلب الرزق بمشقة، وهو ما سماه الإمام المجدد: (العمل اليدوي والكسب الكاد). وذلك في مختلف المجالات: التجارية والصناعية والحرفية والفلاحية، والخدمات. ويطلق على أصحابه العمال، في مقابل أصحاب المشاريع.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: “خيرُ الكسْبِ كَسبُ العاملِ إذا نَصحَ” [5]. وكلمة العامل، تشمل العامل في جميع المجالات بما في ذلك العمل التجاري. قال عليه الصلاة والسلام، فيما رواه الإمام أحمد عن رافع بن خديج رضي الله عنه، وقد سئل: أي الكسب أطيب؟ قال: “عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور” [6]. كما يدخل تحت لفظ العامل، الموظفون من الدرجة الوسطى.

2- أهمية التكسب

بيّن الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله، أهمية التكسب عندما ربطه بتحقيق العبودية للخالق، ودعا إلى توفير [7] الحرية في الكسب: “وحريته في الكسب تعني أن يكدح ويتعب ويعمل بِجد ليأكل من عرق جبينه، لا أن يعيش طفيليا. فإنه إن عاش طفيليا على المجتمع، بالكسب الحرام؛ من ظلم، وابتزاز، وغش، وكسل، وحيلة، ودروشة، وتواكل، فقد خان قانون العبودية لله عز وجل” [8]. قانون العبودية: الشريعة.

ويُعد التكسب جهادا في سبيل الله. يقول الإمام المجدد: “فلم يكن هناك عندهم -يقصد الصحابة- تمييز بين الجهادين، جهاد الكسب وجهاد العدو. جاء في ترجمة سعد بن معاذ في “الإصابة” عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسعد: “ما هذا الذي أرى بيدك؟” فقال: “أثر المسحاة، أضرب وأنفق على عيالي، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم يده، وقال: “هذه يد لا تمسها النار!” [9].

ولأهمية التكسب الحلال، في اقتصاد الدولة الإسلامية، يقول الإمام المجدد رحمه الله: “تحت ظل الإسلام [10] يُكرم العامل، وتُكرم الأطر المسماة وسطى، وتشجع المهارات المهنية واليدوية. ويكون العمل والكسب القيمة الأولى في الاقتصاد” [11]. “هذا يعطي الصدارة في مجتمعنا للمسلم المحترف، إن كان عبدا لله، مؤمنا به سائرا مع ركب المؤمنين، لا كل كادح مكابد” [12].

والتكسب -الحلال طبعا- شعبة من شعب الإيمان، لا يكتمل الإيمان إلا بها. وقد جعلها الإمام المجدد رحمه الله، أول شعبة من شعب العمل، لأهميتها.

3- الحث على التكسب (الحلال)

من الآيات القرآنية التي تحث على التكسب الحلال، تفاديا للظلم والفساد، قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (النساء: 29). بالباطل، أي: بالحرام. ومما قيل في تفسير “ولا تقتلوا أنفسكم”: (لا تقتلوا أنفسكم بأكل المال بالباطل). تفسير البغوي.

وقال تعالى: فَانتَشِرُوا فِي الْأرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ (الجمعة: 10).

وقال تعالى: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ (المزمل: 20).

ومن الروايات النبوية، التي جاءت في التكسب، مع الإخلاص في العمل، والصدق في المعاملة: “لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره، خير له من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه” [13].

“خيرُ الكسْبِ كَسبُ العاملِ إذا نَصحَ” [14]. إذا نَصحَ، أي: إذا أخلص في عمله.

“قيل يا رسول الله: أي الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور” [15].

والمبرور: الذي لا يخالطه شيء من المآثِم.

“لن يزولَ قَدَما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن شبابه فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه” [16].

4- التكسب: فقه وآداب

يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: “ما كل تكسب يقبله الإسلام” [17]. الإسلام لا يقبل من المسلم الكسب بالباطل، والغش والتحايل، فكيف بطالب العدل والإحسان. وقد خصص الإمام المجدد رحمه الله شعبة تحت عنوان “طلب الحلال”، مباشرة بعد شعبة التكسب.

وفي كتاب “في الاقتصاد”، تحت عنوان “عمر يعلم الناس علم الكسب”، يقول الإمام المجدد: “روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يطوف بالسوق، ويضرب الناس بالدرة يعلمهم علم الكسب ويقول: لا يبيع في سوقنا إلا من يفقه، وإلا أكل الربا، شاء أم أبى” [18].

وعن الغرض من فقه الكسب، يقول الإمام رحمه الله: “مرد الأحكام الإسلامية في فقه الكسب إلى منع الظلم، والاحتكار، وتزييف الحسابات، وغش المعامل، وترويج البضاعة بالكذب، والربا، وتطفيف المكيال والميزان، واللعب بالأسعار، والتغابن، وسائر أنواع الفساد” [19].

وقد ذكر الإمام المجدد رحمه الله هذه الأحكام مع أحاديثها في كتاب “شعب الإيمان”، وأضاف إليها روايات أخرى، نذكر منها:

– طلب الحلال واجب. حديث: “طَلَبُ الْحَلَالِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ” [20].

– لا تستدن إلا لضرورة قصوى. حديث: “يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّيْن” [21].

وأورد الإمام المجدد، في كتاب في “الاقتصاد”، جملة من الأحكام والآداب، نذكرها باختصار، مع بعض الشروح والأمثلة:

– تجنب البيوع الفاسدة، مثل: بيع الغرر. وهو أخذ المال من الإنسان على جهالة ومخاطرة في العوض، فيصبح شبيها بالقمار. لكن البعض يعتقد أن التراضي، مع وجود الغرر، يبيح له استغلال جهل الناس وثقتهم. مثل البيع في الظلام، أو دون تأمل، وغير المقدور على تسليمه.

– تجنب التغرير: حمل شخص على معاملة بطريقة احتيالية -تصوير الأمر على غير حقيقته-، تجعله يظن أن المعاملة في مصلحته. مثل شراء سلعة بناء على إعلان كاذب. يقول الإمام المجدد رحمه الله: “فن العرض وتجميل السلعة وتغليفها للدعاية لها خداع لا يقبله الإسلام”.

– ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النجش. وهي في الشرع الزيادة في ثمن السلعة ممن لا يريد شراءها ليقع غيره فيها، سمي بذلك لأن الناجش يثير الرغبة في السلعة. يقول الإمام المجدد: “هذه حيلة المتظاهر بالمساومة من رفقاء البائع”.

– وليتوقّ كل بيع وشراء أخبر العلم ببطلانه، أو خروج من حكم العلم به. فإن ذلك كله منقصة للدين، مخبثة للكسب. فإن أشكل عليه شيء من هذه الأمور بخفائها سأل أهل العلم والفتيا، فيأخذ منهم على مذهب الورعين ورأي المتقين.

– ولا ينبغي أن يشغله معاش الدنيا عن الآخرة، ولا تقطعه تجارة الدنيا عن تجارة الآخرة، ولا يمنعه سوق الدنيا عن سوق الآخرة. وقد كان عمر رضي الله عنه يأمر التجار فيقول: “اجعلوا أول نهاركم لله عز وجل، وما سوى ذلك لنفوسكم”.

يقول الإمام المجدد رحمه الله: “ينبغي في دولة الإسلام أن يبكر الناس إلى العمل. فقد ورد في حديث نبوي رواه الإمام أحمد والترمذي: “اللهم بارك لأمتي في بكورها”. فإن المؤمن لا ينام كالجيفة حتى تفوته صلاة الفجر…”.

ومن كتاب “شعب الإيمان”، شعبة التكسب، نورد الآداب التالية:

– ذكر الله في الأسواق ومواطن الغفلة.

– المؤمن لا تكون الدنيا همته (لا ينقطع إلى الدنيا).

– السماحة في البيع والشراء (لا محاولة الاستغلال).

– إقَالَة النادم بيعته (رحمة به).

– التوكل على الله.

– يتبع –


[1] أخرجه مسلم، عن أبي هريرة.
[2] أخرجه البخاري، عن أبي هريرة.
[3] أخرجه الطبراني، عن كعب بن عجرة.
[4] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي: 245.
[5] أخرجه أحمد، عن أبي هريرة.
[6] أخرجه أحمد، عن رافع بن خديج.
[7] في دولة الإسلام.
[8] عبد السلام ياسين، في الاقتصاد، ص75.
[9] عبد السلام ياسين، في الاقتصاد، ص182.
[10] في دولة الإسلام.
[11] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي: 245.
[12] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي: 246.
[13] أخرجه البخاري، عن أبي هريرة.
[14] أخرجه أحمد، عن أبي هريرة.
[15] أخرجه أحمد، عن رافع بن خديج.
[16] أخرجه الطبراني، عن أبي الدرداء.
[17] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي: 247.
[18] عبد السلام ياسين، في الاقتصاد، ص89.
[19] عبد السلام ياسين، في الاقتصاد، ص90.
[20] أخرجه الطبراني، عن أنس بن مالك.
[21] أخرجه مسلم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص.