قال الله تعالى في محكم كتابه: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (آل عمران، 164).
حركني الشوق لأمسك قلمي وأكتب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذكراه العطرة عبرا، علها تشفع لي بين يدي الله تعالى، فلم يطاوعني القلم، وأدركت حينها قول الشاعر:
الشوق حركني بغير تردد ** والشعر أبحر في غرام محمد
إن صمت عن نظم الكلام تكلفا ** فالصمت أبلغ في جلال المشهد
وخجلت من نفسي كيف أطلع على ما تزخر به المواقع والمواضع من درر وألزم الصمت، فحاولت الاقتباس من أنواره من خلال سرد بعض مواقفه مع صحابية جليلة من ذاك الجيل، عسى أن تحدث فينا أمرا.
قبل أعوام مضت زرت بلاد الحرمين الشريفين، المكان الوحيد الأوحد الذي تجتمع فيه الأمة على قبلة واحدة، ويا ليتها تعتبر منه لتجتمع على قضاياها الكبرى وتنتشل نفسها من الذل والهوان التي هي فيه، توجهت إلى الروضة الشريفة متلمسة أثر رسول الله عليه أزكى الصلاة والسلام بالمدينة المنورة، التي استقبلتنا وكأن لسان حالها يقول: ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (الحجر، 46)، وتنشرح لك مداخلها بشجرها وحجرها فتدرك من الوهلة الأولى أنها طيبة الطيبة، بمساجدها ومزاراتها وأهلها وكل شيء فيها.
استحضرت مواقف عدة من سيرة خير خلق الله تعالى عليه الصلاة والسلام، وأخذت أتخلل شوارع المدينة وأزقتها علني أجد أثرا لصحابية تتلمذت على يديه الشريفتين وأبلت البلاء الحسن، نتوسم اقتفاء أثرها عسى أن تحرك الساكن فينا والخامل من حولنا ليطلب ما عند الله تعالى، فإذا بي أقف أمام سور ضخم شامخ شموخ صاحبته وأهله، ولم تستطع أيادي الغدر طمسه وإزاحته وتعليق اسم “مقبرة” عليه كما هو الحال في عدد من المآثر.
إنه بيت الصحابية الجليلة أم سليم، الملقبة بالرميصاء، خالة رسول الله كما ورد لدى الإمام النووي، الأم المربية والزوجة الصالحة والعابدة التقية، التي ظل اسمها منحوتا في كتب السير والتراجم يشهد لها بما أحدثت فيها التربية النبوية من خير وعطاء، حتى صنفت من صانعات المجد للأمة. فحين يذكر الوفاء تذكر، وحين يذكر العلم والحلم تذكر…
هي أم سليم بنت ملحان الأنصارية الخزرجية، أخت أم حرام بنت ملحان الملقبة بشهيدة البحر، وأم الصحابي الجليل أنس بن مالك الذي تشرف بخدمة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وفي بضع دقائق حول رحاب بيتها استحضرت وقائع جليلة، ومواقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهلها، وهي المرأة الصالحة التي في زواجها عبرة، حيث عرض عليها أبا طلحة مهرا ثمينا فردته قائلة: “يا أبا طلحة ما مثلك يرد ولكنك امرؤ كافر وأنا مسلمة لا تصلح لي أن أتزوجك”.. “أما تعلم يا أبا طلحة أن آلهتكم ينحتها آل فلان وأنكم لو أشعلتم فيها نارا لاحترقت، أولا تستحيي أن تعبد شجرا أو حجرا”..
وطلبت مهرا باهظ الثمن هو “الإسلام”؛ الدين الذي بايعت عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأنصار الذين بايعوه، بيعة رفعتها إلى درجة من المسؤولية والذمة بجانب المبايعين.
جاءها رسول الله عليه أزكى الصلاة والسلام يوما مع ثلة من أصحابه، فتحرج أبا طلحة من قلة ما لديهما من طعام، ويقينا منها في بركة المولى عز وجل، أعدت ما لديها، وحين خاطبها رسول الله قائلا: “هلمي ما عندك يا أم سليم” أتت بطعامها، فأخذ يأذن بالعشرة أشخاص تلو العشرة حتى أكل القوم كلهم، وقد ورد في الأثر أنهم كانوا يتجاوزون السبعين رجلا.
اهتمت بصغيرها أنس بن مالك، لا اهتمام الطعام والشراب فقط، بل لقنته الشهادتين منذ نعومة أظافره، أرضعته العلم والإيمان، ولما بلغ العاشرة من عمره قدمته لخدمة رسول الله وهي تعي جيدا المدرسة التي سينشأ فيها ويكتمل إيمانه وعلمه وحلمه فيكون له شأن عظيم في الأمة، وطبعا كان ولا يزال.
يقول الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمة الله تعالى عليه في كتاب تنوير المومنات: “أقوى ما تستقوي به الأمة، متانة بناء الأسرة، والمتانة أمومة مصونة مستقرة في بيت مدرسة، أهم ما تعد لهم من قوة، أمومة مبرورة، برة مربية، تصنع مستقبل العزة للأمة”.
لقد أثمرت فيها التربية النبوية علما نافعا غزيرا تفقهت فيه مرضاة لله تعالى وطلبا لوجهه الكريم، فكانت تسأل رسول الله عليه أزكى الصلاة والسلام عن خصوصيات النساء، ويتوافد عليها وفود في المدينة يسألنها عن أمور دينهم، وحتى في ما وقع عليه اختلاف بين الصحابة، فكانت من النساء اللواتي قالت فيهن سيدتنا عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: “نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأَنْصَارِ لَمْ يَكُنْ يَمْنَعُهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ”.
كما استحضرت موقف رسول الله تعالى معها وزوجها يوم حنين، فلم تتردد في نصرته، بل ثبتت يوم انهزم القوم وخشيت عليه أن يلحقه أذى العدو، فأعطت مثالا للصمود، وأبلت البلاء الحسن، وصمدت في الصفوف الأمامية مع زوجها الذي قال فيه رسول الله عليه الصلاة والسلام يوم حنين: “لصوت أبي طلحة في الجيش خير من ألف رجل”.
رزقها الله تعالى حسن الخاتمة فكانت نهايتها مشرفة، وتقبلها ربها بقبول حسن فكانت من المبشرات بالجنة.
هي إحدى خريجات المدرسة النبوية التي حملت بشائر الخير للعالمين. هي رحلة ممتعة خلف أسوار بيتها تحيي فيك تاريخا حافلا بالدروس والعبر، نستحضرها في ذكرى مولد خير خلق الله تعالى، الذي فك الرقاب من عبودية العباد إلى عبادة الواحد الأحد، ومن نير الجهل إلى نور العلم والعقل، وانتشل البشرية من مستنقع الظلم والاستضعاف والقهر إلى ظلال العدل والكرامة.
إنه مولد بشرية جمعاء نستلهم منه عبرا من خلال أحداث غيرت وجه التاريخ، ومنحة ربانية رفعت الصعاب عن حياة العرب آنذاك، فتنسموا عبق الحرية والعزة، وحملوا مشعل التغيير والنهوض بالإنسانية كلها، فأكرمهم الله جل جلاله بالسيادة والريادة، فقال: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ (آل عمران، 110).
فاللهم صل وسلم وبارك عليه عدد خلقك ورضى نفسك وزنة عرشك ومداد كلماتك، والحمد لله رب العالمين.