إن المؤمن المتهمم بالله وبأمر المسلمين لا يهرب أو ينعزل في ركن من أركان مسجد حيه، أو زاوية من زوايا بيته، محوقلا، أو مهللا، أو مكبرا… وهو بخيل “بإيمانه أن تمسه نار الفتنة” 1، وخائف “على أذياله الطاهرة أن توسخها عفونات الجاهلية، وعلى صلاح عمله أن يفسد إن خالط المجتمع الفاسد” 2، بل يرى أن انعزاله في ركن ركين، سيفوت عليه خيرا كثيرا، سيفوت عليه صيانة حريته وحفظها والمطالبة بها مع المطالبين، ويفوت عليه المساهمة في فك الرقاب وتحريرها من عبادة الطواغيت واتباع الهوى والشبهات الفكرية والقلبية، وقد يفوته الله إن فعل، ومن فاته الله فاته كل شيء.
فلا مناص من مخالطة الناس، المستضعفين منهم خاصة، والحض على إطعامهم، إشفاقا من قوله تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيم وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِين[الماعون: 1/3]، ثم الانخراط مع من يدافع عن قيم العدل والإنصاف بينهم، فعن ابن مسعود؛ رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من أصبح وهمه غير الله فليس من الله، ومن أصبح لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن أعطى الدنية من نفسه غير مكره فليس مني” 3، و “إعطاء الدنِيَّة هو الرضى بالذل، هو الخضوع للظالمين”. 4
إنها فرصة التحزب لله عز وجل، وفرصة الجهاد 5 بكل شعبه، كيف لا وقد: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عظيما درجات مِنهُ ومَغْفِرَةً ورَحْمَةً وكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا[النساء: 95،96].
خلال رحلتنا الثانية إلى أعالي التاريخ، سنقف مع رجل كان للغيظ كاظما، وبالحلم على أهل الجهل متصفا، وبالتشمير مع التلطف لنيل المراد كان حرصا، دون شماتة بعدو بل نصيحة وشفقة، فاكتسب فوزا، ونال سعادة، وازداد غبطة، وتضاعفت له اللذة 6 والسرور وهو عند الملك الشكور، وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169].
وصفه ربه بسرعة الاستجابة التي أنالته السعادة والكرامة. قائلا: وَجَآءَ مِنۡ أَقۡصَا ٱلۡمَدِينَةِ رَجُلٞ يَسۡعَىٰ [يس: 20]، وفي وصفه بالسعي يقول ابن عاشور: إن ذلك “يُفِيدُ أَنَّهُ جَاءَ مُسْرِعًا وَأَنَّهُ بَلَغَهُ هَمُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِرَجْمِ الرُّسُلِ أَوْ تَعْذِيبِهِمْ، فَأَرَادَ أَنْ يَنْصَحَهُمْ خَشْيَةً عَلَيْهِمْ وَعَلَى الرُّسُلِ، وَهَذَا ثَنَاءٌ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ يُفِيدُ أَنَّهُ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ فِي الْإِسْرَاع إِلَى تَغْيِير الْمُنْكَرِ.” 7
حبيب بن إسرائيل النجار:
تحدث الله سبحانه عن هذا الرجل، ولم يذكره باسمه، ليبقى رمزا متجددا لكل القائمين الصداعين بالحق، المساندين للدعاة والمصدقين بهم، المستجيبين لمنادي الإيمان: رَّبَّنَآ إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِى لِلْإِيمَٰنِ أَنْ ءَامِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَـَٔامَنَّا ۚ رَبَّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّـَٔاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلْأَبْرَارِ[آل عمران:193]، ويبقى رمزا للعزة بالله، والتي إن تغلغلت في النفوس أصبح الموت أحب إلى الناس من حياة الهَوان، والشهادة في سبيل الله أغلى الأماني، والذلة المضروبة عليهم أبغضَ إليهم من كل بغيض 8.
وإذا كان مؤمن آل فرعون قد نجاه الله من مكر الماكرين فانقلب ولم يمسسه سوء، فإن حبيب بن إسرائيل أكرمه الله بالشهادة، وهذه هي نهاية الطريق إلى الله: إما نصر وتمكين، في مقابل الذلة للخانعين المنتكسين، قال الله عز وجل: إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ]الأنفال: 36[.
وإما شهادة وكرامة ورضوان سرمدي لا ينقطع، لا ثالث لهما، والتجارة مع الله لا تبور، قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ[الصف:10-13]، فتعالوا بنا نرتع قليلا ببستان هذا الرجل، نستمع إليه بقلوب آذاننا، لعلنا نجد ببستانه هدى.
كنت في غار أتعبد لله، مبتعدا عن هموم الناس في أقصى المدينة 9، لا ألتفت إلى حوادثهم اليومية، كاتما إيماني، لكنني ما إن بلغني خبر الرسل، وسمعت منادي الإيمان ينادي استجبت له بدون تردد، ركضت من بيتي حتى وصلت للقوم وأخذت أدعوهم لاتباع الأنبياء الذين لا يبحثون عن مال أو منصب، وقلت لهم: ” اتَّبِعُوا مَنْ لَا تَخْسَرُونَ مَعَهُمْ شَيْئًا مِنْ دُنْيَاكُمْ وَتَرْبَحُونَ صِحَّةَ دِينِكُمْ… وَهُمْ إِنَّمَا يَدْعُونَكُمْ إِلَى أَنْ تَسِيرُوا سِيرَتَهُمْ فَإِذَا كَانُوا هُمْ مُهْتَدِينَ فَإِنَّ مَا يَدْعُونَكُمْ إِلَيْهِ مِنَ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ دَعْوَةً إِلَى الْهُدَى” 10، وأخذت أذكرهم بالله عز وجل، وأنه هو الضار النافع، وأن ما تعبدونهم من دونه لا يملكون لكم ضرًا ولا نفعًا، وأظهرت ديني ونصرت المرسلين.
وكان من عادة بني إسرائيل تكذيب الأنبياء والرسل، لذلك كان الله يرسل النبي تلو النبي؛ ليس إكراما لهم ولا محبة فيهم؛ ويعززه بثان وثالث، لعل القوم يصدقون ويؤمنون، ولكنهم لا يفعلون، قال الله على لسانه: يَٰقَوۡمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلۡمُرۡسَلِينَ ٱتَّبِعُواْ مَن لَّا يَسۡـَٔلُكُمۡ أَجۡرٗا وَهُم مُّهۡتَدُونَ وَمَا لِيَ لَآ أَعۡبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ ءَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةً إِن يُرِدۡنِ ٱلرَّحۡمَٰنُ بِضُرّٖ لَّا تُغۡنِ عَنِّي شَفَٰعَتُهُمۡ شَيۡـٔٗا وَلَا يُنقِذُونِ إِنِّيٓ إِذٗا لَّفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ إِنِّيٓ ءَامَنتُ بِرَبِّكُمۡ فَٱسۡمَعُونِ[يس: 21/23].
سمعوا مقالتي، وطاش طيشهم بعد أن تيقنوا أني خالفت أعرافهم وتقاليدهم والتي أساسها التواطؤ على التكذيب وقتل الأنبياء، التفتوا إلي واثبين كالأسد الضارية، فثبتني ربي فدعوت لهم بالهداية، وتلطفت في مناصحتهم وداريتهم، ومحضت لهم النصح 11، وناشدت فيهم الفطرة السليمة التي استيقظت فيَ، وأسمعتهم “الحق عَلَى وَجْهٍ لَا يُثِيرُ غَضَبَهُمْ وَيَكُونُ أَعْوَنَ عَلَى قَبُولِهِمْ إِيَّاهُ” 12 على الوجه الذي لا يرون معه أني لا أريد لهم إلا ما أريده لنفسي.
قلت ذلك وأنا على يقين إِن يُرِدۡنِ ٱلرَّحۡمَٰنُ بِضُرّٖ لَّا تُغۡنِ عَنِّي شَفَٰعَتُهُمۡ شَيۡـٔٗا وَلَا يُنقِذُونِ “[يس:23]، ولكنهم قوم لا يسمعون النصيحة، فتوطؤوني بأرجلهم رفسا حتى خرج قصبي من دبري، خرجت روحي إلى باريها، ورأيت ما رأيت من إنعام ربي علي، قال الله على لسانه: قِيلَ ٱدۡخُلِ ٱلۡجَنَّةَۖ قَالَ يَٰلَيۡتَ قَوۡمِي يَعۡلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلۡمُكۡرَمِينَ[يس: 26/27]، ولو أطلعهم الله على حالي لعلموا حبي الشديد لهم.
عقب الزمخشري على مقالته هذه: “وإنما تمنى علم قومه بحاله، ليكون علمهم بها سببا لاكتساب مثلها لأنفسهم، بالتوبة عن الكفر والدخول في الإيمان والعمل الصالح المفضيين بأهلهما إلى الجنة. وفي حديث مرفوع: “نصح قومه حيا وميتا” 13وفيه تنبيه عظيم على وجوب كظم الغيظ، والحلم عن أهل الجهل، والترؤف على من أدخل نفسه في عمار الأشرار وأهل البغي، والتشمر في تخليصه والتلطف في افتدائه، والاشتغال بذلك عن الشماتة به والدعاء عليه. ألا ترى كيف تمنى الخير لقتلته والباغين له الغوائل وهم كفرة عبدة أصنام. ويجوز أن يتمنى ذلك ليعلموا أنهم كانوا على خطأ عظيم في أمره، وأنه كان على صواب ونصيحة وشفقة، وأن عداوتهم لم تكسبه إلا فوزا ولم تعقبه إلا سعادة، لأنّ في ذلك زيادة غبطة له وتضاعف لذة وسرور.” 14
وخلاصة هذه الحلقة: إن الغاية من أي دعوة هي تحقيق الرحمة المقصودة من خلال الرسل والكتب والصالحين، التي أنزلها الله عز وجل في قوله: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[الأنبياء: 107]، ولا تتحقق هذه الرحمة إلا من خلال الدعوة إلى الله التي قام بها الرسل عليهم السلام 15، وقد تجلت في همِ هذا الرجل الذي أخذ الدعوة بجِدٍّ واجتهاد، إذ جاء من أطراف المدينة ليقوم بواجبه في دعوة قومه إلى الحق، وكفِّهم عن البغي 16.
[2] مقدمات في المنهاج، ص: 44.
[3] ياسين عبد السلام، رجال القومة والإصلاح، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، ط: 4/2021، ص: 22. علق قائلا: في الجامع الصغير إشارة لصحته.
[4] نفسه، ص: 23.
[5] مقدمات في المنهاج، ص: 44. بتصرف.
[6] الزمخشري، ج: 4، ص: 10. بتصرف في مضمون النص.
[7] التحرير والتوير، ج: 22، ص: 366.
[8] رجال القومة والإصلاح، ص: 22. بتصرف
[9] لِأَنَّ قَلْبَ الْمَدِينَةِ هُوَ مَسْكَنُ حُكَّامِهَا وَأَحْبَارِ الْيَهُودِ وَهُمْ أَبْعَدُ عَنِ الِإِنْصَافِ وَالنَّظَرِ فِي صِحَّةِ مَا يَدعُوهُم إِلَيْهِ الرُّسُلُ، وَعَامَّةُ سُكَّانِهَا تَبَعٌ لِعُظَمَائِهَا لِتَعَلُّقِهِمْ بِهِمْ وَخَشْيَتِهِمْ بَأْسَهُمْ بِخِلَافِ سُكَّانِ أَطْرَاف الْمَدِينَةِ فَهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الِاسْتِقْلَالِ بِالنَّظَرِ وَقِلَّةِ اكْتِرَاثٍ بِالْآخَرِينَ لِأَن سكان الْأَطْرَاف غَالِبُهُمْ عَمَلَةُ أَنْفُسِهِمْ لِقُرْبِهِمْ مِنَ الْبَدْوِ. انظر ابن عاشور، التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر – تونس سنة: 1984 ه، ـج: 22، ص: 365.
[10] التحرير والتوير، ج: 22ن ً: 367.
[11] الزمخشري، ج: 4، ص: 10.
[12] التحرير والتوير، ج: 22ن ً: 368.
[13] ورد هذا في قصة عروة بن مسعود أخرجه ابن مردويه من حديث المغيرة بن شعبة، فذكر القصة وفي آخرها «فكان يقول وهو في النزع: يا معشر ثقيف ائتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطلبوا منه الأمان، قبل أن يبلغه موتى فيغزوكم. فلم يزل كذلك حتى مات، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: لقد نصح قومه حبا وميتا، وشبهه يصاحب يس. الزمخشري، ج: 4، ص: 11.
[14] الزمخشري، ج: 4، ص: 11.
[15] http://islamport.com/w/amm/Web/2542/1237.htm، الموسوعة الشاملة بتصرف.
[16] فاطمة أحمد مكي، فوائد للدعاة من قصة مؤمن آل ياسين، https://www.alukah.net/sharia/0/119806/، 23/8/2017