استعرضنا في الحلقات السابقة كيف كان إبراهيم بلال أستاذا وأنموذجا في حقول متعددة، منها الدعوي ومنها التربوي 1، وسنبرز في هذه الحلقة جانبين هامين كان فيهما يرحمه الله، كذلك قدوة تحتذى ونبراسا به يهتدى، جانب تثبيت العمل وإشاعة روح الطمأنينة في الصف ثم جانب الاضطلاع بالمسؤولية التنظيمية ومذهبه فيها.
– تثبيت العمل الدعوي
فعلاقة بموضوع تثبيت العمل وتوسيعه بالدار البيضاء، يقول الأخ عبد الجبار:
“بعدما أسسنا 2 – وكما أسلفت- أسرة دعوية كان السي بشيري نقيبها، بدأنا نجلس معه أسبوعيا، ثم بدأت تُطرح فكرة التوسع وكيف نستقطب ونبحث عن أعضاء جدد. وشاء الله أن ييسر بمنطقة الإدريسية ربحا دعويا وازنا؛ فمجموعة من الأعضاء الذين دعوناهم بها كانوا بلا نشاط دعوي أو جَمْعِيٍّ ولم يكن لهم سابق انتماء، وكانوا كُثُرا. طرح المسألة السي بلال في الأسرة، ووكل أمر الاتصال بكل منهم على انفراد إلينا بلال وأنا، ثم جمعناهم في لقاءين أو ثلاثة عندي في بيتي. وبعد أن تكلمنا لهم عن السي عبد السلام وقدمنا لهم لمحة عن سجاياه ونبذة من مشواره السلوكي ونتفا من مشروعه الدعوي أخبرناهم أنا التحقنا به وأن أيدينا ممدودة إليهم لنتعاون سويا على خدمة الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، كما أمر ربنا سبحانه في محكم تنزيله. فاستجابوا، ولله الحمد، وانضموا إلينا. وكان من تلك المجموعة التي استجابت الأخ أحمد أبو الصواب حفظه الله وكان يسكن آنذاك مع أخته سعدية، حفظها الله وتقبل بذلها وجهادها”.
– السي بلال يعين نقيب أسرة في سباتة
ويضيف عبد الجبار متحدثا عن أول مسؤولية تنظيمية تسند لبلال:
“…. وبعد كل استجابة وإثر كل توسع كنا، بلال وأنا، نسجد لله فرحا بتوفيقه واستبشارا بموعوده. نبتة هنا ونبتة هناك! وكل مدعو بعد أن يلمس دفء المحبة ووضوح الطريق، لا يلبث أن يأتي ويستقطب بدوره للجماعة آخرين. رتبنا أمورنا وعادت للسي بلال بدوره نقابة أسرة في سباتة تضم مجموعة من الإخوان”.
– الأستاذ فتح الله أرسلان 3 يعين أستاذا بالبيضاء وتعاون الأخ بلال معه
الأستاذ فتح الله أرسلان، رباطي المولد والنشأة، عين بعد تخرجه من الجامعة أستاذا بالدار البيضاء. وكانت مجلة الجماعة آنذاك يراسلها المهتمون بالشأن الدعوي ويطرحون على مديرها المسؤول الأستاذ ياسين تساؤلات أو يبعثون بمقالات. وكان الأستاذ ياسين يسلم عناوين المراسلين للسي فتح الله يبحث عنهم ليربط بهم الاتصال فيحاورهم ويوسع معهم النقاش حول مشروع الجماعة الدعوي. وفي هذا الموضوع يقول شاهدنا عبد الجبار عبد الهادي:
“وكلما اطمأن مُطمئِن أو “وعد خيرا” كما نقول بالدارجة، إلا ويمدنا السي فتح الله بعنوانه لربط الاتصال به وتفقده وتعهده. ومرة دلنا على مجموعة فنية إنشادية معروفة محليا، فذهبنا إليهم أنا والسي بلال وتذاكرنا معهم في كيفية الشروع في العمل: بم يبدؤون وكيف يطورون؟ فكانت انطلاقة شعبة أخرى انضافت إلى شعبة السي فؤاد محداد والسي حسن إزرال والسي شهاب، بينما كانت شعبة السي عبد الحق الخشاعي في طريقها إلى التشكل. وفي إحدى الولائم حضرناها مع السي بشيري تعرفنا على السي محمد بارشي 4 فعرضنا عليه العمل فاستجاب والتحق بالجماعة صحبة مجموعة من الإخوان، أذكر منهم: السادة عبد اللطيف قديم وسعيد أمرير وعبد المنعم فكونوا أسرة الحي المحمدي”.
– بلال المسؤول التنظيمي: محبة أخوية لا هيمنة تنظيمية
أسندت إلى بلال نقابة أسرة في البداية كما تقدم آنفا، ثم تولى مسؤوليات تنظيمية عليا؛ فهيا بنا نستمع إلى من عملوا بجانبه في هذه المسؤوليات ليحدثونا عن تدبير بلال لهذه المسؤوليات وتعامله مع من أُمِّر عليهم نقيبا. يقول التلميذ ثم الطالب آنذاك حسن بوغا 5:
“كان دائما يُبرز الجانب الإيجابي في الإخوة، وكان يقول: “إن عملية البناء تقتضي الصبر والمصابرة ورباطة الجأش مع الإخوة”. هكذا كانت ممارسة السي بلال للمسؤولية. ولقد عرف بالأب وليس بالأسماء التنظيمية. فلم تكن علاقته رحمه الله بالإخوة في التنظيم خاصة من كان منهم تحت إشرافه، علاقة مسؤول تنظيمي بمن هم تحت مسؤوليته، بل كان لهم جميعهم أبا وأخا يتخوّلهم بزياراته ويتفقد الكثير منهم وخاصة المرضى وأصحاب الحاجة المتضررين ويطمئن على أحوالهم؛ الشيء الذي فتح له باب التعارف والتآلف مع آباء وأمهات وأزواج وأبناء الإخوة. فصارت هذه اللحمة مشجعة له لاقتحام بيوت الإخوة.
” فمثلا، فيما يخصني، كانت لي علاقة خاصة به. وكنت آنذاك في بداية الثمانينيات ما أزال تلميذا أدرس في السلك الثاني وعندما أعود إلى البيت من الثانوية، أجده قد سبقني إليه، فألقاه إما متحدثا مع الوالدة أو آخذا بكتاب الله يتلوه أو ماسكا بالسبحة ذاكرا لله أو مصليا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان هذا شأنه مع أهالي جميع الإخوة الشباب، ما أن يطرق أبواب بيوتهم إلا ويستقبل بالترحاب ويدعى للدخول في انتظار قدوم أبنائهم ولا يُتْرَكُ ينتظر بالباب. كان رحمه الله محبوبا عند الأمهات والآباء والإخوة. بل أكثر من ذلك عُرِفَ حتى عند الجيران الذين يقطنون بجانبنا. ولقد تلقيت العزاء في موته من طرف الجيران، احتل مكانة في قلوبهم، وهذه خصلة وأنعِمْ بها من خصلة. فالدعوة في منظور السي بلال وفي ممارسته، يجب أن تسعى ليس فقط لاستقطاب المدعو وإنما كذلك لاستمالة أسرته وطمأنتها -بلطف القول ولين المعشر وبالمثل والقدوة- إلى أن ابنها يصحب أخيارا متخلقين تُؤْمَنُ بوائقُهم وتُحْمَدُ مرافقتهم.
ولم تكن قط تَلْمَسُ في علاقتك بالسي بلال أنك تخضع لتراتبية تنظيمية أو أنك مضغوط بانضباط حركي تسلسلي”.
وفي مقطع آخر من شهادته، يعود الأستاذ حسن بوغا للحديث مرة أخرى عن تعامل بلال التنظيمي، فيقول: “كان تعاملا أبويا وليس سلطويا معتمدا على المكانة التنظيمية. بل كان يُعرف بالاحتضان لجميع الإخوة، صغيرهم وكبيرهم ومع الأخوات. وإذا صدر عيب أو شطط من أحد الإخوة كان يرد عليه بابتسامة في وجهه ويقول الكلمة المصاحبة له دائما: “الّي ِبان َلِيكْ” (ما ترى) أخي هو الصواب”، فيكون لهذه الكلمة، وهي تقطر صدقا ومحبة، بالغ الأثر؛ فيعود المعاند عن عناده ويثوب المخطئ إلى صوابه.
– تثبيت بلال للإخوان وزرع الثقة في نفوسهم
اعتقل الإمام عبد السلام ياسين أواخر سنة 1983 6. وكان اعتقاله أول اعتقال تعرفه للجماعة منذ تأسيسها في شهر شتنبر1981 7. فكان، خاصة للمبتدئين في صفوفها، صدمة. يقول السي عبد الجبار حاكيا عن وقع هذا الاعتقال في الصف:
“أن يُعتَقَلَ في أي تنظيم فتيٍّ زعيمُه ومؤسسُه، بما وهبه الله من كاريزما وتجربة، فلا ريب أن يكون من دوافعه زعزعة صف المنتمين إليه وتخويفهم وترهيبهم، وإيقاف مد توسعه وانتشاره. ولقد كنا -فيما يخصنا- واعين بهذا الأمر، وخاصة أن زعيمنا الأستاذ ياسين كان يمتاز، بالإضافة إلى الكاريزما والتجربة، بالعلم والسابقة والحظ من الله. فقلنا السي بلال وأنا –لا أدرى من سبق إليها- يجب أن نحصن إخواننا -والظرف صعب جدا- من أن يعتريهم الضعف أو يصيبهم الخوف أو الوهن. فبدأنا نقوم بجولات على الأسر في لقاءات موسعة، كان السي بلال ينبهم خلالها إلى هذا الأمر يذكرهم بقوله عز وجل الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا 8 (يكررها ثلاثا) وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (يكررها كذلك ثلاثا). فما يرى الإخوة قوة يقين السي بلال ورباطة جأشه وعدم طواف الخوف بساحته، حتى تسري فيهم حاله فيخرجون أكثر تصميما على متابعة السير في صفوف الجماعة وراء زعيمها الأسير في سجن “العلو”، الأستاذ عبد السلام ياسين (رحمه الله)”.
– علاقة بلال بالسي محمد بشيري
أما عن علاقته بمن هو فوقه في السلم الإماري التنظيمي، وصبره وتحمله العتاب والزجر وإن كان قويا بل ومما لا يتحمله الكثير من الناس، فهذا كذلك مما يُظهِرُ طينةَ الرجل وصدقَه وإخلاصَه. نستمع أولا في هذا الجانب إلى السي حسن بوغا، تم نستمع إلى زوجة السي بشيري وهي تتحدث عن هذا الأمر. يقول الأخ حسن بوغا:
“سوف أنقل هنا حالة من بعض حالات تعامل السي بلال مع من يقسو عليه. وقد حضرت وكنت أسمع وأرى غضبات السي محمد بشيري على السي بلال والكلام الحاد الذي يوجهه إليه، وفي المقابل كيف كان ينصت في هدوء ودون إبداء أي تذمر أو اشمئزاز، وعندما ينتهي السي بشيري كان يرد عليه “نعم سيدي محمد أمرك مطاع” ثم يقبل رأسه وكأنه هو المخطئ الجاني!
“إخلاصه وصدقه للجماعة هو الذي جعله يتخلق بهذا السلوك وينظر للأشياء بشكل تعبدي وأنه تلميذ يتعلم ويأخذ ليَبْذُلَ ويُعطي. لكن الرجولة والبطولة في شخصيته تكمنان في تعامله مع الآخر، لقد كان يتمثل فيه قول الحبيب المصطفى “حُرِّمَ على النار كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ، سهلٍ، قرِيب من الناس” كما روى ذلك الترمذي. كان يقول لي رحمه الله: “يا حسن! إني لأسأل الله عز وجل ألا أكون سببا في خسارة أخ يغادر الجماعة بسبب تعامل خاطئ مني. فلا بد من اللطف والحيطة”.
أما السيدة زهرة -وهي تتحدث عن بلال وتحمله النقد في طريق الدعوة إلى الله ولو كان قاسيا- فتقول في شهادتها الصوتية المسجلة:
“لما توفي بلال، جاءتني زوجة السي بشيري معزية. ومما حكته لي عن الفقيد أن زوجها كلفه يوما بمهمة، ربما استدعاء الأخوات للقاء دعوي أو لحفل أو شيء من هذا القبيل. ولما حان موعد اللقاء ولم يحضر منهن إلا القليل، وجه له السي بشيري انتقادا حادا – والسي بشيري كان “شوية قاصح” 9 – وآخذه على عدم قدرته على إنجاح أية مهمة تسند إليه قائلا “ما تعرفو تديرو حتى شي حاجة”؟ فأطرق بلال يستمع إليه في صمت وحياء والابتسامة على محياه. فلما أنهى السي بشيري احتجاجه أقبل بلال يعانقه ويقبل رأسه 10. وتضيف زوجة بشيري، أنه قال لها بعد افتراقهما، لقد أخجلني السي بلال وأحسست أني دونه بكثير. فلو كنت مكانه وعُومِلْتُ بهذه الطريقة وخوطبت بنفس الحدة، لكنت غضبت غضبا شديدا أو “كنت نمشي بحالي” 11، فهذا السيد، بما آتاه الله من صبر وتحمل وتؤدة، أشعرني بأني دونه كثيرا، بمراتب ومراتب”. وأضافت قائلة: “لما كانت الليلة الموالية لموت السي بلال ترك السي بشيري الفراش وذهب لينام على الأرض، ولما سألته عن السبب، أجاب: “خويا بايت في الروضة وأنا انعس في الناموسية” 12.
وتعلق السيدة زهرة على كلام السيدة زوج بشيري: “كانت الأخوة بين الرجلين في مستوى عال جدا جدا. وفي الحقيقة السي بشيري كان نعم الرجل، الله يرحمه”.
الحلقة القادمة: مواساة وعمل اجتماعي
[2] في حلقات سابقة.
[3] ذ. فتح الله أرسلان نائب الأمين العام لجماعة العدل والإحسان والناطق الرسمي باسمها.
[4] عضو مجلس الإرشاد حاليا.
[5] أحد الشهود الذين اعتمدنا شهادتهم ضمن هذه السلسلة، وقد تم التعريف به سابقا.
[6] اعتقل يوم 27 دجنبر 1983 بتهم واهية عقب صدور العدد الأول والأخير من صحيفة الصبح.
[7] كان الإمام ياسين اعتقل قبل هذا التاريخ لمدة ثلاث سنوات ونصف عام 1975، لكن هذا كان قبل تأسيس الجماعة.
[8] سورة آل عمران الآية: 173.
[9] كان شيئا ما قاسيا. والتعليق هنا لزهرة زوج بلال.
[10] علما أن الرجلين رحمهما الله كانا متقاربين في السن.
[11] أنسحب وأستقيل من هذا الأمر نهائيا.
[12] أيستقيم أن يبيت أخي في المقبرة وأنام أنا على السرير المرفوع؟