تمر الأيام الجميلة سراعا، وتشغف القلوب الطاهرة بأنوار القرب ولذة العبودية لله الواحد القهار، تهفو، ترف، تدعو الله تعالى أن يعيد عليها الشهر الفضيل أعواما عديدة وأزمنة مديدة، تفارقه وهي تستشعر ألم الفطام، بعد أن استأنست بأجوائه وروحانيته الغامرة، تفارقه وهي حريصة ألا تضيع غنائمه أو تفرط في حصاده الذي ينبغي أن تلمسه إلى رمضان.
وها هو العيد يطل علينا بفرحته، ويستقبله الصائم كما يستقبل، المحارب المغوار الذي جد في ساحة الوغى وهو يدافع عن الحمى وينتصر لقضيته العادلة، وكأنه يستقبل بشرى النصر المبين والفتح العظيم، ولا يحق له أن يتنازل عن ترسه وذرعه وأدوات حربه ما دامت بعد توفيق الله سبب عزه وعنصر مجده.
بم عدت أيها العيد السعيد؟ لن تنسينا غمرة الفرحة بالعيد ما نتجرعه من مرارة الأحوال ونكد الظروف المحيطة بأمتنا في الداخل والخارج، لن تنسينا صرخات الثكالى وحزن الأيامى ودموع اليتامى في بلاد المسلمين، لن تنسينا آهات سوريا وجرح فلسطين واستضعاف بورما وطغيان الدب الأبيض واستئساد العدو الصهيوني الغاشم ومؤامرات من أرادوا بالمسلمين سوءا لاعبين على المكشوف أو تحت طاولات نادي الاستكبار العالمي.
يعود العيد والأمة ممزقة إربا، مفرقة مزعا وأشلاء، تتفق من أجل ألا تتفق، وتجتمع عند النكسات الكبرى من أجل التنديد، لا تزيد فيها الدعوات الطائفية إلا استفحالا، والحمية الجاهلية إلا ظهورا، وطفت فيها كيانات قزمية دخيلة، لا تمت إلى الدين بصلة وهي تلوح بشعارات الدين، تقتل المؤمن الموحد وتجير المشرك وتحاول أن تبني سؤددها فوق أشلاء الأبرياء.
يعود العيد والمجتمع الدولي يعيد أنفاسه بعد انسلاخ بلد الإنجليز من الاتحاد الأوروبي لحسابات خاصة لعلها تريد أن يحيي بها أمجاد الأمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، أم لأنها تخشى من سيطرة دول منطقة اليورو الـتسعة عشر على مجريات اتخاذ القرار في الاتحاد، أو للتحكم في حركة المهاجرين المستفيدين من تساهل قوانين الاتحاد الأوروبي… سيناريوهات ستكشف عنها الأيام…
يأتي العيد وسيول الأكوام البشرية التي كرمها الله سبحانه وأهانها عبيده تتدفق عبر الحدود وهي تهفو أن تصل إلى ضفة الأمان، فيغرق منها من يغرق قبل أن يدرك وجهته وينجو منها من كان من قدره النجاة، هجرة أثارت العديد من التساؤلات والانقسامات في وجهات النظر: لماذا تقبل العديد من الدول الغربية بتدفق هؤلاء المهاجرين إلى بلادها؟ هل هي صحوة ضمير وإغاثة ملهوفين أم حاجة إلى سواعد البناء والرغبة في تشبيب قاعدة مجتمعاتها الهرمة؟ لم لا تستقبل جموع الهاربين من نير الحروب أو ظلم الساسة الذين يتربعون على كراسي أثلوا لها بدماء شعوبهم وتاريخ حضارتهم بنفس حرارة الترحيب بالكوادر والعقول الهاربة من ذل الفقر أو عدم تكافئ الفرص؟…
يعود العيد السعيد وصوت الانفجارات يدوي هنا وهناك، لا يميز، بهمجيته القاتلة وحقده الدفين، بين حرمات الزمان والمكان والأشخاص.
يعود العيد السعيد والسعادة مطلب تهفو إليه الطبقات المسحوقة في بلدنا السعيد، بلدنا الذي يسعد فيه الأغنياء والمترفون بغنم القسمة الضيزى في الرزق وثروة البلاد، فيزدادون غنى ويزداد الفقراء فقرا… بلدنا الذي يرضى أن يتضور الكثير من أبنائه من شدة الفقر، ويصفق لتمايل الأغنياء من كثرة الري والشبع، بلدنا السعيد الذي تتجمع فيه الثروة والسلطة في أيادي منعمة، ولا يستقل فيه القضاء وإن هفا إلى الاستقلال أو حاول القاضي فيه أن يسبح بخلاف التيار طاله من التضييق والسلب ما أصاب القاضي الهيني.
يعود العيد السعيد على واجهات دولتنا مصبوغة منمقة للترويج ليافطة بلاد الأمن والأمان، والتوازن الاجتماعي والبيئي والحريات العامة والورشات الاقتصادية والتنموية المفتوحة والتدشينات المتعددة … في غفلة عن واقع الاستئثار والاستبداد والاستبلاد والاستضعاف والاستحمار لشعب لا تزال الأمية فيه طافية، وقلة ذات اليد طاغية، والغش على كل المستويات مكسب لا يوارى، وبيع الضمير عملة لم تعد نادرة في أوساط من تولوا شأننا فعمدوا على المتاجرة بنا وبصحتنا وبمستوى عيشنا وإن كان بصفقات الخزي والنفاية الإيطالية والفرنسية…
يحل العيد السعيد وبلدنا يعاني من أزمات اجتماعية خانقة وتطور اقتصادي على ضآلته لا يصل إلى جيوب الفقراء، وأحلام المطالبين بتحسين الأوضاع مجهضة أو تكاد، وانقلبت الموازين حتى وكأنا يصدق علينا قول المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم: “سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه في أمر العامة “ 1
عاد العيد السعيد وتعليمنا لا نكاد نتفوق فيه على أحد، خلل كبير يشهده قطاع التعليم وهو قطب أي تغيير ومفتاح أية تنمية اقتصادية، والضعف مهول في مجال البحث العلمي، فلا التعليم يرتبط بسوق الشغل ولا الدولة تؤدي مسؤولياتها كاملة لإنجاحه، بل تكاد تحضر فيه حضورا محتشما لصالح القطاع الخاص حيث يؤدي الآباء ضريبة إنقاذ فلذات أكبادهم تقتيرا في قوتهم اليومي أو حرمانا من الكثير من ضروريات الحياة… وحينما تفكر في مد حبل الإنقاذ ليتشبت به الغرقى تضرب الأخماس في الأسداس فتتعلق بمخططات مستوردة لا تغير منها إلا الاسم، ومواثيق ورؤى لن تنجح لأنها نشأت في بيئة ليس من السهل أن نستنسخها حاليا، عوض أن تنقب عن سر تفوق من تفوق في هذا المجال الحيوي وتستفيد من تحارب الأمم المتعددة، فها هي ذي سنغافورة تحولت في زمن قياسي من جزيرة منبوذة متأخرة أغلب ساكنتها أمية، إلى مصاف الاقتصاديات التي تنافس أقوى الدول، حصل هذا حين انتبهت إلى ضرورة تطوير التعليم لتطوير القوى العاملة مما سيحقق الأهداف الاقتصادية، فحددت السياسة التعليمية بما يتوافق والحاجات الاقتصادية، وأعادت النظر في أجور المعلمين وأعطت قادة المدارس استقلالية أكبر، وألغت التفتيش واستحدثت التميز المدرسي و قسمت المدارس لمجموعات يشرف عليها موجهون مختصون غايتهم التطوير واستحداث برامج جديدة، كما اعتنت بطرائق التدريس وقللت من الكم وضخامة المحتويات لصالح مجال التفكير.
يعود العيد السعيد، وإرضاء لإملاءات أجنبية، ينهض بعض المتحررين من قيود المروءة والدين ليطالبوا بتغيير مناهج التربية الإسلامية وتحويل اسمها إلى التربية الدينية في محاولة يائسة لجلب رضا جهات دولية نافذة، وتلويحا بوجود طوائف وديانات في المغرب. التغيير في المناهج مطلب كفيل بالارتقاء بالعملية التعليمية التعلمية لكن في إطار منهج تشاركي يسهم فيه الممارسون، ونظرة شمولية للمناهج والمقررات كفيلة بتكوين التلميذ تكوينا علميا رصينا يؤهله لسوق الشغل، مع بناء القيم وترسيخها في نفسه لإنشاء جيل يربط بين العلم والعمل، ويرتبط بالقيم، مما يؤهله للإتقان في أداء الواجب وخدمة الوطن.
يهل علينا العيد السعيد ونحن نوقن أن الهمم العالية والسواعد الصادقة كنز تزخر به تربة بلدنا السعيد أكثر مما تزخر بالمعادن والطاقات التي لا يصل نداها إلى الشعب، عليها المعول بعد توفيق الله تعالى… صدقها محرك، وعزها رأسمال حقيقي، وسواعدها عامل بناء، بها يزداد فرحنا ونحن نستقبل هلال العيد السعيد… ولولاها لرددنا مع الشاعر بكل حسرة:
عيد ٌ بأي حال ٍ عُدْتَ يا عيد ُ
بما مضى أم لأمر ٍ فيْكَ تجديدُ
كل عام وأنتم إلى الله أقرب، وتقبل الله منا ومنكم.