بوح في سر الكتابة

Cover Image for بوح في سر الكتابة
نشر بتاريخ

بَوْح

حين يعتصرك الشوق حتى يحيلك سرابا.. تسرع إليها متمسكا بتلابيبها، عسى تعيد إليك ألوان الحياة.

وحين تتمرد عليك وحوش الألم، فتنطحك بقرونها القاسية، تكسر أضلعك وتهشم وجه أحلامك، وتردي إرادتك وأيامك.. وتذيب مشاعرك حتى يغدو كالقطر المالح.. تسيل إليها مستعطفا، متأملا في قوتها السحرية.. تجبر أحزانك.

وفي أحايين أخرى.. في تلك الفترات الراكدة؛ عندما تسكن أمواج انفعالاتك، وتخط الكآبة عناصرها المقيتة على جوارحك، تأخذ منك البسط والانبساط، وصدى الضحكات، وتسحب من عينيك زخرف الحياة.. تركن إلى زاويتها المضيئة، تستأنس بها في ليلك الطويل المتقيح، وتبوح إليها بوصفاتك القديمة، وألوان مناديلك، ودمعاتك المعطلة.

تحكي لها عن قصصك البطولية، عن آخر مرة افتر ثغرك فيها باسما بطمأنينة، عن لمسة الحب التي جلبت لك الحظ، عن الحقيبة التي تحوي كل أسرارك، وعن.. عن كل شيء تبقى منك.

تخبرها عن ذلك اليوم الذي انكسر فيه القيد، وتخطيت فيه عتبة السبق، واجتمع فيك الجزء مع الجزء، ولانت الضحكة في صدرك.. انطلقت كالشذى تعبر أجواء الخوف، تشكل على المنتهى أفقا بروائح الفجر.. فتغدو كالطير، يفلت جناحيه لنسائم الصبح، تأخذه على محمل التفاؤل.. بين أعشاش الرزق التي لا تنضب.

وفي كل تلك اللحظات المبهرة، التي تخطف أنفاسك، كأنك في مغامرة شيقة، تتذكرها.. فتهفو إليها تزف لها البشرى وتنتشي بين ثناياها البيضاء.

الكتابة

الكتابة.. تلك الآلة العجيبة الغريبة..

ذلك المنبسط الأبيض الفسيح..

تلك الأداة الكامنة في البعض..

ذلك العنصر المشبع بالخيال والفطنة..

ذلك الكيان الجميل المترقرق..

إنها اللغز الذي يَحُلّ عقد مواجدي، وهي الوضوح الذي يكتنز أفكاري ومشاعري، إنها الفرصة التي أنتهزها كلما سنحت.. لأكتشف شيئا مني ولكي أُبْدِي بعضا مني.

في رحابها أجري وأجري كابني الأصغر..

لا أتقيد بعادة ولا تقيدني عادة..

أكون حرة كنظرة مرحة في وجه طفل قبلته للتو أمه.

أكتب أنى شئت وكيفما شئت ولمن شئت..

أكتب، وأكتب، وأكتب..

حتى أشكل فكرة، وأنسج قصة، وأبني قيمة تتعدى الكيف والأين.

لكن.. 

هل لهذا كله معنى؟

هل أكتب لأن الكتابة ليَ الملاذ والدواء والأمل؟

هل أكتب لأنها الجسد الذي أتمناه.. والزاوية التي أنتشي فيها بوجودي؟

هل أكتب لأنها زماني ومكاني لا سلطة لأحد عليهما؟

أم.. ماذا؟

ارتبطت بالكتابة وارتبطت بي مذ تعلمت حروف الأبجدية، وتعلمت التهجئة. وصار عندي كل المتعة والشغف اكتشاف كلمات جديدة، حتى لو كانت بين وريقات مرمية، أو صفحات جرائد ممزقة، أو لافتة معلقة.. أو في المقررات الدراسية، والقصص المصورة والروايات والكتب.. كانت هذه الأخيرة وما زالت بالنسبة إلي خير جليس وأنيس.

انجرافي في الكتابة، كان يولد في كل مرة قرأت رواية أو كتابا ما.. تحملني تلك المشاعر التي أخرج بها من عوالم القراءة إلى الكتابة.. وكأني أُقَيد تلك المشاهد والأحاسيس والأفكار في كياني، بالكتابة.

من هناك تعلمت أن أَهِفّ إليها بسرور لا مثيل له، كلما غزتني العواطف أو نشبت في نفسي المعارك.

غير أن كتاباتي وليومنا هذا ظلت أسيرة النقص.

دائما ما أشعر بها مبتورة، وكأن أحد أعضائها الحيوية ناقص.

لماذا؟

هل لأني مجرد هاوية.. شادية لم تتجاوز بعد فجر الكتابة الهادفة والمنضبطة.

أو ربما لأن كتاباتي تعكس شخصيتي الفوضوية، تكره الالتزام، وتغرق في الأحلام الوردية..

أو ربما لأني لم أتلق تكوينا أكاديميا تاما يعينني على صقل هذا “الجين” الكامن فيّ.

أو ربما لأني لم أكتشف إلا قريبا.. أهم أسرار الكتابة.

سر الكتابة

بوعي أو عن غير وعي مني، كنت أكتب لأن الكتابة شغفي..

إنه الشيء الوحيد الذي كنت أتقنه إلى حد ما، وكان يشعرني بالتميز.. بل ويشعرني أن لي عالمي الخاص الذي لا يتطفل علي فيه أحد، أو يلقي فيه بسخافاته علي.. ولا يجرؤ أي كان على السخرية مني وأنا فيه..

كنت حرة.. أو هكذا بدا لي.

وانتقلت بي السنين والتجارب. وكان لتجربة الأمومة الدور الأهم في إعادة تشكيل وعيي وبالتالي أحاسيسي وفكري..

لم أعد تلك المراهقة التي تنتحب عند لمح شبح ابتسامة مستهزئة، بل أصبحت أما.. راعية ومسئولة، لا بد لها من قوة وصبر وحلم وحكمة، والأهم لا بد لها شاءت أم أبت أن تتخلص من أنانيتها وانغلاقها على ذاتها، وتفسح المجال لكائنات صغيرة وجميلة وضعيفة أن تملأ حياتها وتلونها بأحداث أخرى لا تنتهي ولا تقف عند حد.

كان لهذا التحول أثره العميق على أسلوبي في الكتابة، وفي المفردات التي أنتقيها وأستعملها.. وحتى في المواضيع التي أحاول الكتابة عنها.

لكني سرعان ما سئمت هذا التحول، مللته، شعرت وكأني مكبلة إلى جذع نخلة، وكأني مجبرة على أن أكون غير أنا..

وهذا أحزنني وأوقف دافع الكتابة في نفسي.. فتوقفت بالفعل زمنا طويلا عن الكتابة وبالتالي عن القراءة.

وذات يوم، أعدت قراءة المنظومة الوعظية للإمام عبد السلام ياسين، (حنيني للكتابة والقراءة لا يتوقف وإن عزفت عنها زمنا) أخذت بيدي إلى رحائب كنت أجهلها.. فتحت عيني على حقائق كنت في غفلة عنها.

وقفت على سر الكتابة.

“- ينبغي أن يكون الأدب الإسلامي وسيلة من وسائل التربية، كلمة لها مغزى، تحمل معنى، تبلغ رسالة. لا أداة تسلية وبضاعة استهلاك” [1].

“- وسيلة تربية وكلمة هادفة تأخذ من العصر وسائله، وتُروّضها وتتزين بزينة الله، وتتلطف بأشكال المقبول شرعا من أدوات التعبير العصرية..” [2].

“- تربية مبلّغة متلطفة قوية هادفة هاجمة تكنس من طريق أجيال الإيمان فلسفات خانقة حانقة مدمرة، غامرة بتيارها جارفة، تُعلم أن الإنسان خزّان غرائز ومعدن شهوات، وشبكة نوابض، وآلة عجيبة للذة واقتناصها..” [3].

في قراءتي الأولى للمنظومة، نفرت من مضمونها ونظمها، تساءلت باستنكار: ماذا ترك للإنسان؟

حسبتُ آنذاك أن الكتابة غاية لذاتها، ولذة في نفسها..

نكتب شغفا وتعبيرا عمّا يعتمل في دواخلنا، وما نحلم به ونريده..

حلمت دوما بأن أكون كاتبة.. لها تآليفها الخاصة، واسم يُترنم به.. كيف أكتب؟ عمن أكتب؟ ما الهدف وما الغاية؟ ما فكرت بذلك.

يكفي أن أكتب ويطّلع الناس على كتاباتي ويُسجلون إعجابهم بها.. فقط.

لكن في القراءة الثانية والقراءات التي تلتها.. فهمت المغزى من المنظومة.

إن كنت أحب الكتابة وأرجو أن أكون يوما من فرسانها فـ: “لا خير في أدب يجول في عرصة الدنيا وعرسها يداعب أهواء الناس وتداعبه، يثير مشاعر الناس وتثيره، يؤجج مشاعر الناس وتؤججه، غافلا مغفلا عن المآل، عاجزا مثبطا لعزمات الرجال” [4].

وتعلمت من أستاذي العزيز، أن الكتابة ليست هدفا في حد ذاتها، وإلا سيصيبها الضمور وتعتليها القروح والجروح، وتتساقط مائتة كما تتساقط أوراق الخريف.

وإنما هي وسيلة لتحقيق غايات عظمى.

وإن كنت أريد أن أصبح كاتبة، فالكتابة رسالة، ورسالة الإسلام شاملة، تهم الإنسان في جوهره؛ من هو؟ ومن أين أتى؟ وكيف جاء؟ وإلى أين هو صائر؟ وما هي عِلة وجوده؟

“من وراء شفافية الشعر وتلطف الفن وترقيق الأدب، ينبغي أن يرتسم بوضوح حقيقة من أنا المتكلم الشاعر الأديب الفنان، وينبغي أن تنفذ رسالتي، وتبلّغ أمينة على البلاغ القرآني النبوي الذي أخدمه عزيزا به، مُقتحما به، متحدّيا به” [5].

أخيرا..

أن تقتلع جذور ما تهواه من تربتك، وتُطوّعه، وتُشذّبه، وتُعيد بناءه ليمسي وسيلة تدفع بها أنانيتك الهوجاء، وتُحقق بها الرجاء، وتُسهم بها في التغيير المنشود: “تغيير ما بالنفس قبل ومع تغيير ما بالقوم” [6]..

وتربية أجيال الإيمان، وحقن منعة العافية في شرايينها.. هو: “منهاج تربية وتنظيم وزحف يدخل على الإنسان برسالة العدل والإحسان بما هو مُتاح وما في الإمكان، علما كان أو عملا، فعلا كان أو قولا، نثر فكر كان أو نظم شعر، حكمة كان أو سحر بيان” [7].

كان يلزم كتاباتي رُؤية وهدف، ومنهج قويم تسير وِفقه، والآن بات لها ذلك.. فرجائي، أنا العاجزة حقا، أن لا أُضيّع المضمون القرآني جريا وراء الجمالية والصنعة والتنميق الفني.. ووراء أنانية علت فاستعلت.


[1]  المجموعة الشعرية للأستاذ عبد السلام ياسين، الجزء الأول. فكرة وإعداد: عبد الفتاح أزبير. ص: 31.

[2] نفس المرجع السابق. ص: 31/32.

[3] نفس المرجع. ص: 33.

[4] نفس المرجع. ص: 28.

[5]  نفس المرجع. ص: 37.

[6] الدعوة إلى الله هم ووعي، إرادة وسعي. الأستاذ منير رگراگي. ص: 61.

[7]  المجموعة الشعرية للأستاذ عبد السلام ياسين، مصدر سابق. ص: 23.