من مسجد السنة بالرباط، وعلى طول المسار المؤدي إلى مقبرة الشهداء، تدفقت الجموع الضخمة من المشيعين، حاملة على أكتافها جثمان رجل عظيم، وفي قلوبها ذكرى نيرة بنور الطريق اللاحب الذي شقه وعبّده للأجيال، وصورة نقشتها عشرات السنين من جهاده الكبير في مثال عزيز النظير.
كان ذلك في يوم الجمعة 14 دجنبر 2012م. ولعل مشهد جنازة الإمام رحمه الله، بمن شهدها من مختلف أطياف الشعب المغربي، كانت شهادة ناطقة بالإجماع الذي تحقق في شخص هذا الرجل الفذ الذي عاش لربه ولشعبه وللمستضعفين في الأرض على مدى نصف قرن من الزمان.
كيف نشأ الرجل؟ وما كانت مصادر تكوينه النفسي والميداني والفكري والروحي؟ كيف استكمل مقومات شخصيته حتى صار إماما تأتمّ به الأجيال وتقتدي وتتأسى؟ كيف فَكَّرَ وخطط؟ كيف عمل وجمع؟ كيف ألَّف ونَظَمَ ونَظَّمَ وأعطى إشارة الزحف إلى الغايتين اللتين عاش من أجلهما ولقي ربه عليهما: إقامة العدل في الأرض، ونيل رضى الله تعالى في الملأ الأعلى؟
في سياق تاريخي بالغ الدقة محليا وعالميا، ولد عبد السلام ياسين عام 1928 بمدينة مراكش، رمز المرابطين المجاهدين تلامذة عبد الله بن ياسين رحمه الله، وحاضنة منار العلم والمعرفة على مدى قرون: “معهد بن يوسف”، وقبلة أولياء الله الصالحين، يؤمهم “الرجال السبعة” برمزيتهم، يُذكّرون وجدان الناس بحضورهم فيه أن المدينة وَلاَّدة رجال.
نشأ عبد السلام وحيد والديه، وأمضى خمسة عشر عاما من الدراسة في ثلاث مدارس مختلفة، ساهمت في بناء أركان شخصيته النفسية والفكرية، وأسست في كيانه مواقف مختلفة من طبيعة التعليم الذي تلقاه فيها.
أول هذه المدارس مدرسة العلامة محمد المختار السوسي (1933/1943م) بمنهجه في التعليم الذي سار عليه المعلمون من تلامذته الذين كانوا يشرفون على تعليم الصبية، وبشخصيته الفذة الفريدة التي لم يفلت من أسْر إشعاعها وجاذبيتها وتأثيرها حتى رموز الصف الأول من الطبقة العالِمة وأهل السياسية ورموز الحركة الوطنية خاصة في فاس، وما أدراك ما فاس!
أما “مدرسة ابن يوسف” (1943/1947م)، فعلى الرغم مما كانت تمثله من صرح علمي أشع على مدى قرون، ومما كان لها من أثر في بناء أركان شخصيته… على الرغم من هذا نسجل موقفه منها، والذي بناه على طبيعة مناهجها التعليمية ومقرراتها وأسلوبها في التسيير، حتى قال عنها: “لم أكن شديد الشغف بتلك الدروس التي كانت تخلو من الاجتهاد في تفهيم الطلبة. كانت ترديدا على النمط القديم لما في بطون الكتب؛ كانت تقريرية…” 1.
وقد تميزت مرحلة التعليم بمدرسة السوسي وبمعهد ابن يوسف بنبوغ كبير مع هِمَّةٍ عالية جعلت الطالب “عبد السلام” يَسْتَقِلُّ ما كان يُحَصِّلُه من معارف وهو متربع على حصير “معهد ابن يوسف”، ولم يكن ليقنع معها بما كان يَقْنَعُ به أقرانه؛ كأنه كان مثالا على صدق قولة المختار السوسي: “إن الطبع السوسي سريع التطور في كل ميدان دخله 2.
ألح على حبيسِ حصونِ مراكش أن يتعلم لغة هذا الغازي الفرنسي الذي يرزح تحت وطأته البلد وجزءٌ كبير من أمة الإسلام. وهي على كل حال اللغة الأجنبية الوحيدة التي كان مُتَاحًا تَعَلُّمُها أواسط الأربعينات من القرن العشرين، والتي ما تزال اللغة المهيمنة إلى أيامنا هذه في التعليم والإدارة والإعلام والثقافة والفكر.
أما ما يخص ثالثة المدارس، فقد سنحت أمام الشاب الطموح فرصة ولوج مدرسة المعلمين بالرباط، فكانت بمثابة خرق لأسوار مراكش الحصينة، وخلاص من العقلية التقليدية التي كانت تهيمن عليها. ولقد كانت مرحلة التكوين الأكاديمي في مدرسة المعلمين بالرباط، والاحتكاك بزملائه المتخصصين في اللغات الأجنبية الذين كانوا يخضعون للتدريب على أيدي خبراء غربيين، فرصة لتمتين حصيلته العصامية من اللغات الأجنبية التي فتحت عينيه على العالم الجديد. وبدأ يتطلع إلى الترقي في السلم الدراسي والإداري بالسعي للحصول على الدبلومات التي تخول له ذلك.
وكانت المدارس الفكرية والتربوية الفرنسية المنهل الأول الذي استقى منه فكره التربوي، بحكم أن اللغة الفرنسية كانت هي اللغة الأجنبية الأولى التي أتقنها وتمكن منها، وبحكم التدريبات المختلفة التي شارك فيها ابتداء من مدرسة المعلمين بالرباط عام 1947م. ثم فتح له تمكنه من اللغة الإنجليزية آفاقا رحبة ليتعامل مع المدارس التربوية الأنجلوسكسونية.
وكانت حصيلةَ تدريباته في فرنسا وأمريكا ولبنان وما راكم من خبرات، وثمارَ بحثه التربوي، ثلاثة كتب ألفها مطلع ستينيات القرن الماضي: “مذكرات في التربية”، و”النصوص التربوية”، و“كيف أكتب إنشاء بيداغوجيا”. وفي هذه الثلاثية الخاصة بمدارس المعلمين والمعلمات، تظهر بوضوح سعة اطلاعه وعمق معرفته، ومستوى تكوينه الفكري، ودرجة كفايته وخبرته البيداغوجية وتجربته المهنية، ومدى قدرته على تنظيم الأفكار وعلى تحليل النصوص وعلى الاستنتاج، ويظهر ما أسداه إلى الحقل التربوي من أياد بيضاء في وقت كان يعرف فراغا هائلا. ونستطيع أن نطلع فيها على طبيعة الأفكار التي كان يدأب على تغذية عقول المعلمين المتدربين والمعلمات المتدربات بها، وعلى نظرته إلى التربية وإلى وظيفتها وشروطها وأسسها ووسائلها وأساليبها وغاياتها بما كان رجلَ تربية مسؤول.
كان مثلا أعلى لتلامذته ولكثير من شباب ومثقفي ذلك الوقت.
“المثل الأعلى”، أو “الأب الروحي”، أو “الرجل المفكر القدوة”… لعل أحد هذه التعريفات أو كلها أو جزءا منها تترجم المعنى الفرنسي لصفة “Maître à penser” التي كان معروفا بها، والتي تشي بمدى ما كان يتحقق به من أناقة المظهر واستقامة السلوك وموسوعية الشخصية وشمول الثقافة وحسن الصيت. وإلى هذا كان متقنا للغات كثيرة، خبيرا بالموسيقى علما وممارسة، شاعرا وناثرا ومفكرا.
وبحكم شخصيته المؤثرة وتكوينه الشامل وخبرته الواسعة التي زكتها مسيرته التربوية في الداخل وتدريباته بالخارج، مدَّ جسرا مهما بين أولئك الشباب الذين ولجوا مدارس المعلمين، وبين مستقبل وآفاق لم يكونوا يدركون منها غير ما كان يُعِدُّهُمْ هو للسعي فيها ولمواجهة تحدياتها وللصمود إلى مداها. وكان من ضمن من تخرج على يديه من طلبة مدرسة المعلمين بمراكش إبان إدارته لها وتدريسه بها (1959-1961م): رجل التربية الحكيم محمد مومن، والمناضل السياسي والحقوقي والأكاديمي عبد الغني أبو العزم، والأديب المؤرخ محمد السعيدي الرجراجي، والوزير الأديب أحمد التوفيق، والشاعر إبراهيم الحري، والأستاذ الجامعي والعضو في المجلس العلمي لمراكش الشاعر محمد البايك، والناشطُ السياسي اليساري المختطف المختفي إلى اليوم في أتُّون سنوات الرصاص منذ أبريل 1981م بوجمعة الهباز، والأديب والمؤرخ والمناضل والعضو السابق بالمجلس الإداري للمعهد الأمازيغي الراحل علي صدقي أزايكو، وأستاذ اللسانيات بالمعهد الوطني للغات والثقافات الشرقية بباريس والمدرس السابق بالمعهد المولوي عبد الله بونفور، والمفتش الممتاز بوزارة التربية الوطنية عبد الفاضل الغوالي، والراحل الكبير أحمد الملاخ، أحد أعمدة دعوة العدل والإحسان.
وقد استطاع الأستاذ ياسين احتضان هذه الصفوة من الشباب وشحْذَ هممهم وإدخالهم في الجو المناسب لتلقي ما يحتاجونه من دعم وعلم وخبرة ووسائل عمل، إعدادا لهم ليتحملوا مسؤوليتهم التربوية المستقبلية.
وكان الرجل من حظوظ الدنيا في أوج ما يجعله في صفوة المجتمع، مركزا اجتماعيا ومستوى ماديا وشهرة وصحة وعافية واستقرارا أسريا، حين باغته همٌّ مؤرق على غير موعد وبدون مقدمات (صيف 1964م). همٌّ جاوز به سحب الدنيا إلى التعلق بمصيره في الآخرة. وكان ولوجه للزاوية البودشيشية (يناير 1966م) صدّا لباب، وفتحا لباب.
صدا لباب علياء الأستاذية لجيل الشباب المثقف المتطلع لحضارة الغرب المنبهر بأضوائها، وفتحا لباب التربع في أحضان الزاوية البودشيشية بين يدي شيخ صوفي قليل البضاعة الرائجة بين الناس، نفيس البضاعة الغالية التي كان مريده يسعى إلى جوب الأرض بحثا عنها مهما كان سيكلفه ذلك.
وفي الفترة ما بين 1966 و1972م انكب على تجديد عهده بالقرآن الكريم الذي كان انشغل عنه قبل ذلك، وبدراسة كتب الحديث دراسة معمقة، وبقراءة التراث الإسلامي قراءة متفحصة، وقرأ ما قرأ من تراث زعماء الإصلاح، ومن تراث رموز الحركات الإسلامية من المودودي والندوي إلى البنا وقطب…
وقبل أن يلتحق الشيخ العباس بربه، كان أستاذنا قد أسس، على مستوى التنظير، أولى لبنات مشروعه التغييري، فخرج على الناس بباكورة إنتاجاته الفكرية بعد تحوله الكبير: “الإسلام بين الدعوة والدولة” (1972م)، ليبدأ في الخروج من فلك الزاوية البودشيشية بـ”الإسلام غدا” (1973م)، وفي اتخاذ مدار خاص به بعد أن أدرك، عمليا، أن جنين المشروع الذي كان يحمله لم يكن رحم الزاوية حضنا مناسبا لنموه.
وفي شهر شتنبر من عام 1974م فاجأ المشهد السياسي والفكري بمبادرة فريدة جريئة غير مسبوقة وغير منتظرة. مبادرة فريدة في نوعها كانت عبارة عن رسالة مفتوحة وجهها إلى الحسن الثاني ملك المغرب، آنئذ، سماها: “الإسلام… أو الطوفان!”؛ نصحه فيها. وأمره. ونهاه. رسالة قوية قيض الله لها جبلين شامخين ذَوَي شمم وأي شمم (أحمد الملاخ ومحمد العلوي السليماني)، تحملا رهبة الموقف، وعناء المسؤولية، وضريبة الصحبة، وثقل الجماعة التي بنيت على أكتاف الرجال الثلاثة.
ولا نستطيع فهم رسالة “الإسلام.. أو الطوفان!” إلا باستحضار السياق السياسي المغربي أولا؛ فصاحب الرسالة يخاطب الملك في الظروف العصيبة التي يجتازها المغرب خاصة ملكه 3. “ولو وجدت لك عذراً غير الجهل لالتمسته لك إبقاء عليك ورفقا بك. لأنك تحكمنا منذ سنتين بدعوى عريضة صاخبة أنك باعث الإسلام، وما بك إلا تبرير سياستك المزرية بالإسلام وأهله، متألها تائها كعهدنا بك” 4. وباستحضار السياق التاريخي، ثانيا، ومجاله الأمة الإسلامية ومداه أربعة عشر قرنا من زمان خُطَّ في رسمه البياني خط ينحدر إلى ما تحت الصفر لأمة جاءت برسالة غايتها أن ترفع الإنسان على هذا الخط إلى أعلى الذروة في أعلى درجات الكمال الإنساني. وباستحضار السياق الخاص لصاحب الرسالة، ثالثا. فملحمة كهذه لا يستطيع مقتحمُ وَغَاها الصمود إلى غايته والثبات عليها إلا إن أسند ظهره إلى ما يمنحه القوة اللازمة للمواجهة. وصاحبنا ما كانت تحضنه عصبية ولا كانت تحميه جماعة ولا كان يسنده حزب ولا كان يرد جاه عنه بطش السلطان. فإلام استند في نصيحته التي كتبها وهو يعلم علم اليقين مآل من يجرؤ عليها؟
يؤكد الرجل الناصح للملك ويلح على جدية قوله وعلى قوة يقينه بما يستند إليه: “وأول النصيحة أن تأخذ ما أقوله مأخذ الجد، فإنه لا أقوى قوة وأمضى سلاحاً، من رجل وحيد يقول كلمة الحق معتمداً على الله مسنداً ظهره إليه” 5.
ولعله ما كان ليستمد من ربه قَدْرَ ما يستعين به على ملحمة الرسالة فحسب، بل قدْرَ ما استعان به على هذه الملحمة، وعلى أربعين عاما من الملاحم المتتالية بعدها؛ لا يكاد يخرج فيها من واحدة حتى يدخل أخرى… بل لعله استمد من ربه قدْر ما احتاجه هو لهذه الأربعين عاما، وقدْرَ ما احتاجته الأمة والإنسانية وتحتاجانه من مدد إلهي من يومه ذاك إلى أن يبلغ الكتاب أجله.
فما كان بعد رسالة “الإسلام أو الطوفان”؟
طريق شاق وطويل…
وعلى مدى هذا الطريق الشاق الطويل لم يتخل ذاك المعلم الشاب الذي عرفناه عام 1947م عن وظيفته الأولى، بل عاد إليها بين الآلاف المؤلفة من تلامذته رجالا ونساء، أطفالا وكهولا وشيوخا، علماء وعمالا وأكاديميين وأميين ودكاترة وطلبة وحرفيين…
هاهو يكد ويجتهد في بناء مشروعه الذي غدا ملاذا لهؤلاء. وهاهو يتحدث بلغة واحدة تفهمها كل تلك الأطياف على اختلاف مستوياتها التعليمية وتعدد حيثياتها الاجتماعية، بلغة القلب بأبسط أسلوب وأعمقه في آن.
هاهو يتحدث، وهو المربي الخبير، والعالم المفكر، ورجل الإدارة المحنك، والإمام المقتدى به، عن أعمال الصلاة وروحها من التكبير إلى التسليم، وعن صلة الرحم وبر الوالدين، وعن تكريم المرأة، وعن مقتضيات الأخوة، وعن التكافل الاجتماعي، مثلما يتحدث عن العدل والجهاد المطلوب لدحر الظلم والاستبداد. وهاهو يتحدث عن الموت وسكراته، وعن الآخرة ومشاهدها، وعن الإحسان ومراقيه. وهاهو يتحدث عن القرآن، وسؤاله الدائم: كم حفظت من القرآن؟
كان القرآن محور همه واهتمامه… يسأل عن المحفوظ منه، ويرغب في تلاوته وحفظه والعمل به… كان القرآن أول شيء دخل جوفه وهو صبي في عاصمة المرابطين، وكان القرآن مستقر همه وغاية اهتمامه.
ما تخلى عن وظيفته التربوية في خضم التدافع المرير مع استبداد قروني قاهر إذ قاد جهادا ما لانت له فيه قناة، وفي أوج الحصار الظالم الذي قيد حركته عشر سنوات ثنَّى “الإسلام أو الطوفان” بـ”مذكرة إلى من يهمه الأمر”، ناصحا أمينا.
وما بين الرسالة والمذكرة، وما قبلهما وما بعدهما، كانت عينُ الرعاية الربانية تصنع به في الناس ما رأى الناسُ وعرف الناس وشهد الناس، من أجل الغاية العظيمة التي لم يكن يعرفها ولا ينتظرها ولا يتوقعها هذا الناس.
فما أعظم ما هيأت الأقدار الإلهية هذا الرجل وصنعته ورعته وأهّلته بما يستحق أن تقف عنده الأجيال لتتعلم صنع الله فيمن يختص من عباده، ولترى قدر الله فيهم.
كان الإمام أول أمره جماعة بكاملها تَئِزُّ في كيان فرد، وكان أمّة بأسرها تبني تحت بُرنس رجل واحد، فـ”الجماعة، كما أُثر عن بعض الصحابة، أن تكون مع الحق ولو كنت وحدك”. ثم غدا، رحمه الله، رجلا تسري روحه في جماعة وفي أجيال وفي أمم من الناس، كأن ميراثه الكبير الذي قُسم له، والأمانة العظمى التي حُمّلها، والعطاء المبارك الذي أُعطيه، كان أكبر من أن يرثه فرد واحد، أو جيل واحد، أو أمة واحدة.
رحم الله رجل الإنسانية، ومجدد الدين.