قد يختلف الزمان والمكان والإنسان بين غزوة الخندق ومعارك النفق، لكن المسار والمصير واحد، فمعارك النفق بغزة هي استمرار لمعركة الحق ضد الباطل، ونموذج ينسج على منوال جيل الصحابة رضي الله عنهم بقيادة سيد الخلق سدينا محمد صلى الله عليه وسلم في صراعهم مع الجاهلية التي تقمصت عبر تاريخ هذا الصراع جسد كل معاد للإسلام وتلونت بلون كل متحزب للباطل.
بشائر الخندق والنفق
من خندق المدينة المنورة في أول عهد الدعوة الإسلامية جاءتنا بشائر بغد مشرق لانتشار الإسلام في الآفاق، أعلن الانطلاقة وأعلن عن البشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عز الحصار، ومن أنفاق غزة تأتينا بشائر الانتصارات المتلاحقة على جيش الاحتلال الذي سمى نفسه “جيشاً لا يقهر”، وفي حقيقة الأمر ظهر وكأنه نمر من ورق لا يكاد يستفيق من هزيمة حتى يجد نفسه قد تلقى أخرى.
بين بشائر الخندق السابقة وبشائر النفق المتلاحقة نزداد يقيناً في قرب ميلاد إسلام جديد بعد هذا المخاض العسير الذي تعيشه الأمة.
ثبات ونبات
قال تعالى: إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون (10) هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا (11) الأحزاب 11-12.
في غمرة أحداث غزوة الخندق التي كانت من أشد المعارك ابتلاء وتمحيصاً، جاءت بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن نور الإسلام سيبلغ الآفاق، كما حكى لنا البراء ابن عازب رضي الله عنه في حديث إسناده حسن “لما كان حين أمرنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم بحَفْرِ الخَنْدَقِ عَرَضَتْ لنا في بعضِ الخَنْدَقِ صخرةٌ لا نأخذُ فيها المَعَاوِلَ، فاشتَكَيْنا ذلك إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، فجاء فأخذ المِعْوَلَ فقال: بسمِ اللهِ، فضرب ضربةً فكسر ثُلُثَها، وقال: اللهُ أكبرُ أُعْطِيتُ مَفاتيحَ الشامِ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ قصورَها الحُمْرَ الساعةَ، ثم ضرب الثانيةَ فقطع الثلُثَ الآخَرَ فقال: اللهُ أكبرُ، أُعْطِيتُ مفاتيحَ فارسٍ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ قصرَ المدائنِ أبيضَ، ثم ضرب الثالثةَ وقال: بسمِ اللهِ، فقطع بَقِيَّةَ الحَجَرِ فقال: اللهُ أكبرُ أُعْطِيتُ مَفاتيحَ اليَمَنِ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ أبوابَ صنعاءَ من مكاني هذا الساعةَ”.
كانت هذه الكلمات مثبتات للصحابة رضي الله عنهم ومبشرات بنبات زرع الإسلام الذي سيغيظ الكفار، ومن أنفاق غزة تأتينا بشريات من المقاومة الثابتة في ثغورها ومعها شعبها العظيم بانتصارات متلاحقة وسط الدمار والحصار المستمر على حلف الشر بزعامة الصهيونية العالمية التي استخدمت كل وسائل العصر الخبيثة من خطط وأسلحة عسكرية وإعلامية وتحالفات سياسية.
ثبات لا شك أنه سينبت ميلاد إسلام جديد على نهج النبوة والصحابة من بعده، إسلام يعم نوره العالم كله كما بشرنا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه تميم الداري حين قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليَبْلغنَّ هذا الأمرُ ما بلغ الليلُ والنهارُ، ولا يترك اللهُ بيت مَدَر ولا وَبَر إلا أدخله الله هذا الدين، بعِزِّ عزيز أو بذُلِّ ذليل، عزا يُعِزُّ الله به الإسلام، وذُلا يُذل الله به الكفر».
بين وعد ووعد
ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله ۚ وما زادهم إلا إيمانا وتسليما الأحزاب 22.
صدّٓق الصحابة الوعد الرباني فصبروا وصابروا ورابطوا حتى أتى أمر الله فهبت رياح النصر. قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا.
فكان ما وعد به الله ورسوله المؤمنين الصابرين المحتسبين الثابتين، وكفى الله المؤمنين القتال، قال تعالى وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا ۚ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا الأحزاب 25.
وعلى نفس النهج تسير المقاومة ومعها وعد الآخرة بزوال الاحتلال وتحرير المسجد الأقصى وعلو كلمة الله.
قال تعالى: فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا (5) ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا (6) إن أحسنتم أحسنتم عن لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا (7). (سورة الإسراء، الآيات 5-6-7).
وحدة المسير والمصير
تشترك غزوة الخندق ومعارك الأنفاق التي تخوضها غزة في تشابه الأحداث وتشابه الأعداء، ووحدة المسار والمسير نحو نفس المصير.
مصير محتوم هو نصر من الله موعود مشروط، قال سبحانه تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) (سورة النور، الآية 55).
للنصر الموعود وللمصير المحتوم شرطان وهما
1- الإيمان بما هو يقين وثبات وصبر ومصابرة.
2- العمل الصالح بما هو إعداد جاد للقوة بكل أشكالها السياسية والإعلامية والاقتصادية والعسكرية والعقدية والفكرية، بنية صادقة تبتغي وجه الله تعالى ونصرة الحق، ثم الالتجاء لركن العبادة والدعاء في الأول والوسط والأخير.
تحقق ما وعد به الله ورسوله جيل الصحابة رضي الله عنهم بعد أن استوفوا شروط النصر، وها هي مقاومة غزة تسير على نفس المسار الذي سلكه الأولون عسى أن يكرمهم الله بالنصر الموعود.
قال تعالى: حَتَّيٰٓ إِذَا اَ۪سْتَيْـَٔسَ اَ۬لرُّسُلُ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُۨجِے مَن نَّشَآءُۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ اِ۬لْقَوْمِ اِ۬لْمُجْرِمِينَۖ (يوسف 110).