القرآن نور وهدى للإنسانية جمعاء ومرشدها إلى الخير والفلاح. ما من شيء يحتاجه الإنسان إلا بيّنه الله فيه؛ إما نصا أو إشارة في آياته الكريمة. قال الله عز وجل “كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ” (ص، 29).
في هذه الآية يبين الله تعالى أن الغرض الأساس من إنزال القرآن الكريم هو التدبر والتذكر؛ فالمراد هو التوازن بين الحفظ والتلاوة والتجويد من جهة وبين الفهم والتدبر ومن ثم العمل به من جهة أخرى. كما كان عليه الصحابة الكرام والسلف الصالح، قال الحسن البصري رحمه الله: (والله ما تدبره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن أحدهم ليقول قرأت القرآن كله، ما يرى له القرآن في خلق ولا عمل).
ما معنى التدبر؟
التدبر لغة: التأمل والنظر إلى عواقب الأمور وما تؤول إليه.
واصطلاحا هو:
– إعمال القلب والعقل لفهم كلام رب العالمين.
– التفكر والتأمل لآيات القرآن من أجل فهمه وإدراك معانيه وحكمه والمراد منه.
– الخضوع لأوامره واليقين بأخباره.
فالهدف الأسمى من التدبر هو العمل بالقرآن، والالتزام بتوجيهاته، وسرعة الاستجابة لأوامر الله عز وجل، والانتهاء عما نهانا عنه سبحانه.
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة مما ثبت من كلام أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كما أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها عن سعد بن عامر قال: “سألت عائشة رضي الله عنها فقلت: يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت بلى. قالت: فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن”.
والصحابة رضوان الله عليهم فهموا هذه المعاني من صحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتجلى ذلك في سلوكهم وسرعة استجابتهم لربهم، ولنا في سيرتهم عبر وعظات وأمثلة كثيرة على ذلك؛ نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما وقع بعد غزوة بدر الكبرى، أول الغزوات المجيدة التي حققت النصر للمسلمين (مع قلتهم) على المشركين مع كثرتهم لذا سميت بيوم الفرقان لأنها فرقت بين الحق والباطل، بعد هذه الغزوة حصلت أول غنيمة للمسلمين من المشركين فوقع خلاف بين الصحابة حولها إذ لم يكن حكمها قد شرع بعد، فأنزل الله عز وجل سورة الأنفال تبين لهم حكم الأنفال وهي الغنائم الحربية وكيفية تقسيمها، وفي نفس الوقت تذكرهم بالغاية العظمى التي خرجوا من أجلها تاركين الأموال والأولاد والأهل من ورائهم.
آيات رحيمة وقوية، فبمجرد سماع الصحابة رضوان الله عليهم آيات هذه السورة العظيمة اجتمعت قلوبهم وقبلوا أمر الله عز وجل وسلموا له، واختفى كل خلاف بينهم، وكان هذا شأنهم في كل أمر يقطع فيه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بحكم.
ولنا وقفة تدبر له مع إحدى هذه الآيات الكريمة التي تهز القلوب وتحملها على طاعة الله؛ يقول الله عز وجل: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ” (الأنفال، 24).
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا” فَأَرْعِهَا سَمْعَكَ فَإِنَّهُ خَيْرٌ يَأْمُرُ بِهِ أَوْ شَرٌّ يَنْهَى عَنْهُ) – أرعى الكلام: استمعه وأصغى إليه ووعاه وتدبره وقبله وحفظه.
فهذا النداء اللطيف الرحيم ينبغي أن يكون له مزيد من إصغاء. ورد في كتاب الله عز وجل أكثر من ثمانين مرة، وكلها تنادي المؤمنين إلى أمر ذي بال، حيث ينادي الله عباده بأحب صفاتهم إليه وأحبها إليهم؛ يناديهم بصفة الإيمان التي تذكرهم بالصلة بينهم وبين ربهم جل جلاله وتستجيش في نفوسهم الاستجابة، يقول صاحب الظلال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يدعوهم إلى ما يحييهم، إنها دعوة إلى الحياة، بكل صور الحياة، وبكل معاني الحياة، يدعوهم إلى القوة والعزة والاستعلاء بعقيدتهم ومنهجهم والثقة بدينهم وبربهم). فالحياة الحقيقية في الاستجابة لله تعالى.
قال ابن القيم رحمه الله: (الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له، وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات، فالحياة الحقيقية هي الطيبة؛ هي حياة من استجاب لله والرسول صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا، فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان).
فالعبرة بحياة القلب لا بحياة الجسد.
الحياة التي يدعونا إليها الله عز وجل عن طريق رسوله صلى الله عليه وسلم هي حياة القلب وكل ما يدعونا إليه من ذكر وصلاة وقرآن وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر … وما إلى ذلك – يحيي قلوبنا ويقربنا من ربنا، فهو سبحانه دعانا ليقربنا، دعانا لينصرنا، دعانا ليؤيدنا، دعانا ليسعدنا في الدنيا والآخرة.
فيا لها من بشرى عظيمة للمستجيبين من رب كريم، جواد رحيم. ولكن إن لم نستجب عن طواعية وتباطأنا وتكاسلنا ابتلانا سبحانه لنرجع ونتوب وننيب إليه.
فبعد البشارة تأتي النذارة، وهي قوية في قوله عز وجل: “واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون” (الأنفال، 24).
روى الإمام أحمد بن حنبل عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، فقلنا: يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ قال: نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله تعالى يقلبها). هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم فكيف بنا نحن؟
إنها آية تهز القلوب حقا، فقلوبنا بين يدي الجبار القهار، ونحن بعد ذلك محشورون إليه، فلا مفر منه إلا إليه، فهو يدعونا لنستجيب استجابة الحر المأجور لا استجابة العبد المقهور.
فسر سعادتنا وحياتنا هي استجابتنا لربنا. فالقلب لا يطمئن ولا يستقر ولا يرتاح إلا بحب الله ومعرفته، والأنس والفرح والابتهاج به عز وجل.
حين تلقّى السلف الصالح القرآن العظيم بعقيدة راسخة مملوءة بالإيمان الجازم أن هذا الكتاب العظيم هو خطاب الله عز وجل لهم، كانت لهم عناية فائقة به؛ حفظا وفهما وتدبرا وعملا، يقتدون بالأسوة الحسنة صلى الله عليه وسلم، حينها تعدت بركتهم إلى غيرهم، فأقاموا العدل ونشروه في أرض الله، وأخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، فحققوا الخير والسعادة لأمتهم.