تدبر في قول الله جل وعلا: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
كثيرا ما طرحت للنقاش، حول موضوع التغيير، قضية الأولوية هل هي لتغيير الحكام والأنظمة السياسية أم لتغيير الشعوب؟ وقد سال مداد كثير في هذا السياق، وأثير جدل واسع حول هذه القضية بين فريقين؛ فريق يرى الأولوية في امتلاك زمام الحكم وأدوات السلطة باعتبارها المدخل الأساس لإحداث التغيير السياسي والاجتماعي الواسع في واقع الناس وإحداث انعطافة تاريخية مهمة، وفريق آخر ذهب إلى أن تغيير ذهنيات الناس وأمزجتهم ومواقفهم وتنمية وعيهم وإعادة تربيتهم هو الأولى وهو جهد سابق على أية أولوية أخرى.
وهذه في الحقيقة قضية جدلية قدم فيها كل طرف دفوعاته وحججه، ولا يمكن الحسم فيها بسهولة وعجل وسطحية. ذلك أن الأمرين معا متداخلان ومتشابكان بصورة يصعب معها الفصل بين المسارين؛ تغيير العامة وتغيير الحكام.
لكن ما استجد من وقائع وأحداث، تصرفها يد القدر الإلهي خلال السنين الأخيرة، يفتل في اتجاه إحداث تغيير عميق في ذهنيات العامة وقناعاتهم العميقة التي طالما كانت ساحة حرب حقيقية بين دعاة التغيير ودهاقنة الحفاظ على استبداد وفساد الأنظمة القائمة. فقد استثمرت أنظمة الاستبداد العربي خاصة، وما تزال، في استغباء الناس وتسطيح وعيهم وجعل اهتماماتهم وأذواقهم أكثر تفاهة لصرفها عن اليقظة والفاعلية واحترام الذات وحصرهم في دائرة الهامشية والاستهلاك البليد والشعور بعدم القيمة واحتقار الذات.
لكن يأبى الله جل وعلا إلا أن يحطم ثوابت استراتيجية الاستبداد من داخلها وبأيدي الفاعلين فيها، بل ويسرع من وتيرة انكشاف زيفها وتعرية وسائلها وفضح غاياتها. وقد بلغ الاستبداد من الغرور والطيش والانتشاء درجة متقدمة جعلته لا يأبه لوعي العامة وحركة اليقظة فيها، ويستمر في طغيانه سادرا في غيه لا يلتفت إلى تغير الأحوال من حوله.
ورغم مكر واحتياط دهاقنة الاستبداد إلا أن مكر الله عز وجل أعظم وأشد وقعا وتأثيرا. وما نرصده اليوم عبر وسائل التواصل المختلفة وفي الواقع العام للشعوب ليست إلا تجليا لهذه الحقيقة؛ فالأحداث المتسارعة وأخطاء الاستبداد المتتالية ما هي إلا عوامل تسريع لاستراتيجية تطوير الوعي وتحرير الإرادة الشعبية في كل المجتمعات العربية، في أفق قريب يصير فيه تغيير أنظمة الحكم المستبدة والفاسدة أمام انكشاف فشلها مسألة أهون مما كانت عليه من قبل. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.