أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجار حتى ظن أن جبريل عليه السلام سيورثه، وحدد له الشرع حقوقا وواجبات، من أجل تأليف القلوب وتمتين أواصر الترابط بين أفراد المجتمع وتشجيع قيم التكافل والتضامن بين الأسر، لتحقيق التعايش والأمن والسلم داخل المجتمع، ومن أجل تقوية حلقاته ولبناته في إطار بناء العمران الأخوي.
قال الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى: “ويمتاز المجتمع الإسلامي بحسن التجاور بين المسلمين. من أهم ما تشكوه مجتمعات الاستهلاك المكونة من الأسر الأنانية على نمط الجاهليين أن الناس أصبحوا لا يأبه بعضهم لبعض، ولا يهتم، ولا يتكلم، ولا يعرف. فآصرة الأخوة الإسلامية الجامعة تقرب الأسر، وتربطها بحقوق ضبطها الشرع وحث عليها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» 1.
لكن ونحن نسترشد بالتوجيهات النبوية بخصوص حقوق جوار الديار، تفرض علينا الأحداث الجارية أمام أعيننا والعدوان الذي تدور رحاه بأرض غزة أن نسائل حقوق وواجبات جوار الأوطان على ضوء واجبات وحقوق جوار الديار. لنسائل سلوك دول الطوق ودول الجوار عن واجب الجوار بين أوطان الأمة أو ما يسمى شرعا بجماعة المسلمين، والتي تجمعها روابط الجوار والعقيدة والدم.
أولا: جوار الديار
1- فضل الجوار
للجوار فضائل عدة بيّنها الشرع وندب إليها، ويمكن إجمالها فيما يلي:
– الجار بمنزلة ذوي القربى
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَا زَالَ يُوصِينِي جِبْرِيلُ بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» 2. ما أجمل هذا المشهد النبوي الذي يبرز فضل حسن الجوار، ففضله يظهر من جانبين، من فضل الموصي وفضل الموصى، فالموصي سيدنا جبريل عليه السلام في تواصل مباشر يبرز عظمة الوصية، والموصى سيد الخلق الرحيم الذي وصفته أمنا خديجة رضي الله عنها حين قالت له: “كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق”، فمن كان هذا حاله فلن يكون إلا محسنا بجاره ومكرما له، فلا يحتاج لوصية، لكن عظمة الأمر اقتضت أن يكون هذا التوجيه في هذا المشهد المهيب، والذي كاد ينقل القرابة من قرابة الجوار إلى قرابة الدم، التي توجب فرائض الإرث. وكيف لا والجوار صحبة وملازمة يومية بحلوها ومرها.
– الجار مصدر السعادة
إن الجار الصالح مصدر السعادة لجاره، فهو يدخل الفرحة والطمأنينة على قلبه عند لقائه بالابتسامة والوجه الباش، وينشر الأمن والسلم بإفشائه السلام، وبيده البيضاء المبسوطة بالخير والعطاء لجاره.
عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَرْبَعٌ مِنَ السَّعَادَةِ: الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ، وَالْجَارُ الصَّالِحُ، وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ، وَأَرْبَعٌ مِنَ الشَّقَاوَةِ: الْجَارُ السُّوءُ، وَالْمَرْأَةُ السُّوءُ، والمَسْكَنُ الضَّيِّقُ، وَالمَرْكَبُ السُّوءُ» 3.
ونرى كيف جعل الرسول صلى الله عليه وسلم أول سبب من أسباب الشقاء الجار السوء، قبل المرأة السوء، وجعل المرأة الصالحة أول أسباب السعادة قبل الجار الصالح، ربما لأن المرأة السوء جعل الله الطلاق منها مخرجا مع أنه أبغض الحلال عند الله، أما الجار السوء فمن الصعب التخلص منه، لهذا قيل “الجار قبل الدار”، و”الجار الصالح من السعادة”.
– الجوار معيار الخيرية
بين رسول الله ﷺ أن خير الجيران خيرهم لجاره، فمعيار التفاضل بين الجيران ليس بالتباهي بزينة الدنيا ولا بالتفاخر والتنافس على متاعها، وإنما الخيرية بحسن الجوار ومكارم الأخلاق. عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ الجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ» 4. ونرى كيف جمع الرسول عليه السلام في هذا الحديث بين الصحبة والجوار لأنه وجه من أوجهها.
– الجوار معيار الإيمان
عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ -أَوْ قَالَ: لِأَخِيهِ- مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» 5. فحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يتضمن تخويفا بنفي الإيمان وكماله عمن لم يحب الخير لجاره كما يحبه لنفسه، وعمن لم يكره الشر لجاره كما يكرهه لنفسه.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ» قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الْجَارُ، جَارٌ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» 6. وقسم رسول الله ﷺ بالله على هذا الأمر يزيد من عظمته وجلاله، فالإحسان إلى الجار طريق الإيمان.
2- حقوق الجار
بعد جرد التوجيهات النبوية في حسن الجوار نجدها تجمل حقوق الجار في حقين جامعين: الأول الإحسان إليه والثاني كف الأذى عنه.
1- إكرام الجار والإحسان إليه
أوصى الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم بالإحسان إلى الجار: فقال سبحانه وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ [النساء: 36]. وقد أنزل الله سبحانه الجار منزلة عظمى بعد التوحيد وبر الوالدين، بل جعله رديفا لبر الوالدين والإحسان لذي القربى.
إن الهدي النبوي يحث المؤمنين على الإحسان إلى الجار وإكرامه، قال رسول صلى الله عليه وسلم عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ» 7.
فالإحسان إلى الجار من علامات الإيمان، والإحسان يشمل كل أعمال الخير المادية والمعنوية كالإكرام، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: «يَا نِسَاءَ المُسْلِمَاتِ، لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ» 8. أي تهديها ولو رجل شاة. ويزيد تبيان ذلك حديث رسول الله ﷺ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يَا أَبَا ذَرٍّ إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً، فَأَكْثِرْ مَاءَهَا، وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ» 9.
ومن الإحسان للجار رد السلام وإجابة الدعوة، وستره وصيانة عرضه وتفقده وقضاء حوائجه، وتحمل أذاه.
ويدخل في الإحسان للجار واجبات عدة من بينها واجب التربية، قال الإمام رحمه الله “في كل إقليم كان دعاة مربون. كان الواعظ مربيا له نفوذه الروحي على قدر ما معه من خشية الله. كان المدرس مربيا على مقدار ما وصل العلم بالعمل الصالح. كان الجار للجار وإمام المسجد وعائل الأسرة مربون على قدر ما ورثوا بالصحبة والملازمة لمن قبلهم من تقوى الله” 10. هكذا كان الأبناء يتربون في محاضن أسر الجيران، فكانت المرأة ليست راعية ومربية فقط لأبنائها بل كذلك لأبناء جيرانها، ولم تكن أما فقط لأبنائها بل أيضا هي أم لأبناء جيرانها، وكذلك الرجل أب لأبناء الجيران.
2- كف الأذى عن الجار
وأول الحقوق وأعظمها هي كف الأذى عن الجار، قولا وعملا، لهذا كان الوعيد النبوي شديد في إيذاء الجار، بأن نفى عمن يسيء لجاره الإيمان وحرم عليه دخول الجنة.
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ..”، وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» 11. وعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السُّوءَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَبْدٌ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» 12.
وفي سياق الوعيد من الإساءة للجار جعله الهدي النبوي من مبطلات الأعمال، والإحسان إلى الجار من قوارب النجاة من النار وإن قلّت عبادة صاحبه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: «هِيَ فِي النَّارِ»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنَ الْأَقِطِ، وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: «هِيَ فِي الْجَنَّةِ» 13.
فحسن الجوار طريق للجنة وسوء الجوار طريق إلى النار، أجارنا الله منها. وهكذا يكون حسن الجوار سببا للسعادة في الدنيا والآخرة، كما أن سوء الجوار يكون سببا للشقاء في الدنيا والآخرة.
ج- أنواع الجيران
نحتاج إلى التذكير بأنواع الجيران في معرض حديثنا لما له من أهمية في ترتيب الحقوق والواجبات. قسم العلماء الجيران إلى ثلاثة أنواع، حسب عدد الروابط، وهي العقيدة والقرابة والجوار. وبناء على أنواعها تتحدد مراتبها، ونعرضها من الأعلى إلى الأسفل:
– الجار المسلم ذو الرحم: وهذا له ثلاثة حقوق؛ حق الإسلام، وحق القرابة، وحق الجوار.
– الجار المسلم البعيد أو الكافر ذو الرحم: فالمسلم البعيد له حقّان، حق الإسلام وحق الجوار، والجار الكافر القريب له حق القرابة وحق الجوار.
– الجار الكافر البعيد: وهذا له حقٌّ واحد فقط؛ وهو حق الجوار. فالإسلام لم يحرم الجار الكافر من حقوق الجوار التي تقتضي الإحسان إليه وكف الأذى عنه. بخلاف اليهود الذين جعلوا ظلم الجار والغدر به مما يغفره الله إذا كان في حق الأميين أي غير اليهود. في كتاب عنوانه: “لا بد لليهود أن يعيشوا” يتحدث الحبر شامويل روث عن الذنوب المغفورة لليهود مسبقا، من بينها ظلم الجار والغدر به، فلا حرج على اليهود فيما يفعلون في حق الأميين. قال: “تفصح الدعوات اليهودية عن الذنوب التالي ذكرُها والتي تُغفر لليهود بلا شرط في يوم عيد كيبور: الذنوب المقترفة بشهوة الأقارب، التجمعات التي يختلط فيها النساء والرجال في الظلام، ظلم الجيران، الاعترافات المزورة، العنف، الإنكار والكذب، إعطاء الرشوة وتلقيها، الغيبة، التكبر، خلع الحياء، الفوضى، الجَدَل، غدر الجار، النميمة، الحلِف الكاذب، سرقة الأموال، خيانة الأموال”.
وهذا ما يفسر غدرهم برسول الله ﷺ في معركة الأحزاب وتآمرهم عليه رغم مجاورته لهم ووجود مواثيق وعهود بينهم. وغدرهم بأهل فلسطين الذين آووهم وأحسنوا إليهم، فانقلبوا عليهم واغتصبوا أرضهم.
[2] عبد السلام ياسين، شعب الإيمان، الحديث رقم 305.
[3] المصدر نفسه، الحديث رقم 319.
[4] المصدر نفسه، الحديث رقم 312.
[5] المصدر نفسه، الحديث رقم 313.
[6] المصدر نفسه، الحديث رقم 306.
[7] المصدر نفسه، الحديث رقم 310.
[8] المصدر نفسه، الحديث رقم 308.
[9] المصدر نفسه، الحديث رقم 307.
[10] عبد السلام ياسين، الإحسان، ج1، ص20.
[11] عبد السلام ياسين، شعب الإيمان، الحديث رقم 314.
[12] المصدر نفسه، الحديث رقم 315.
[13] المصدر نفسه، الحديث رقم 317.