لما أصدر المفكر الهندي أبو الحسن الندوي كتابه “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين” سنة 1950 سَخِرَ منه العديد من المثقفين العرب واعتبروا قوله مجرد هذيانٍ وبكاءٍ على الأطلال، وأحسبهم معذورين في ذلك، سيما وأن معظم العالم الإسلامي كان يرزح وقتئذ تحت نير الاستعمار الغربي، وكانت جل دُوَلِه تعيش انحطاطا حقيقيا. في المقابل كانت الحضارة الغربية تقترب من ذروة سنامها، وتتأهب للبوح بكل أسرارها الاقتصادية والسياسية والصناعية والثقافية، وتستعد عبر مؤسساتها الأممية ومواثيقها ومعاهداتها الدولية إلى هدم كل الثقافات، وتفكيك كل البنيات الأخلاقية والأسس القِيمِية للشعوب التي تعتبرها “متخلفة”، وفرض عولمة نموذجها الليبرالي في كل مجالات الحياة عبر تقديس الحرية الفردية والديمقراطية السياسية، وعبر تشجيع الاستثمار والإنتاج وإزاحة كل العراقيل الجمركية.
لقد كان الندوي (رحمه الله) ثاقب الرؤية، ينظر من أعالي التاريخ إلى مآلات الأمور لا مقدماتها، حين حذّر من عاقبة شقاء الإنسان وتيه البشرية وضياع الأخلاق والقيم. كيف لا وهو الذي استوعب المشروع الحضاري الغربي بشقيه الليبرالي والشيوعي، وتشرب أخلاق وقيم الإسلام في بيئة أشعرته بفضل الإسلام الحق وفضل المسلمين على العالم الذي قاده زهاء 13 قرنا.
ليس الغرض من مقالتي تقديم قراءة في كتاب الندوي ولا عرض أفكاره، وإنما غرضي استدعاء الرجل قصد إنصافه والتأكيد على ما ذهب إليه من خلال مقارنةٍ تُجَلّي لنا عمق الخلل الذي يعتري المشروع الحضاري الغربي، والتباين الصارخ بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية. فلم أجد مثالا في الطبيعة يخدم هذا المسعى غير المقارنة بين مجتمع النمل وجماعة النحل.
إن الناظر في مجتمع النمل سيلحظ لا محالة عدة مميزات سنكتفي بذكر بعضها على النحو التالي:
- أنه مجتمع منظم تنظيما محكما.
- أنه مجتمع يقسم العمل ولا يتوقف عنه بالليل والنهار.
- أنه مجتمع يعيش ككيان، ويسمى تجَمُّعُهُ جيشا، ويطلق على مهامه غارات، أما المكان الذي يعيش فيه فيسمى مستعمرات.
- أنه مجتمع يتغيا الأمن الغذائي والأمن الوجودي.
- أنه مجتمع تحكمه فكرة الكنز والتخزين.
- أنه مجتمع لا يؤمن بالضعيف ولا يقبل به.
- أنه مجتمع غامض البنيات وأن حياته الخارجية مختلفة تماما عن حياته الداخلية.
- أنه مجتمع مستعمر ومحتل يغزو كل المناطق التي يرى فيها موارد لمخازنه.
- أنه مجتمع بسطو على موارد غيره ولا يهمه إلا تأمين وجوده ولا يبالي بالخسارات التي يخلفها لدى الآخرين.
- أنه مجتمع يدور في فلك جحره ولا يعيش إلا لنفسه.
- أنه مجتمع طموح وهلوع وجزوع ومنوع، مستعد للحرب في كل لحظة، ومستعد للتضحية بآلاف النمل من أجل الخزائن.
- أنه مجتمع يدور في دائرة مغلقة هي العمل والكسب والاستهلاك الذاتيين وتوسيع المجال واكتشاف آفاق جديدة للغزو.
- أنه مجتمع وإن كان يبدو منفتحا على محيطه، فهو مجتمع مغلق لا تحركه إلا حاجته ومصلحته.
ولئن كانت جماعة النحل تشترك مع مجتمع النمل في العديد من الخصائص منها الحياة الاجتماعية، وتقسيم الأدوار، والعمل المنظم، والتواصل الفعال، والتراتبية في بنية النظام، إلا أن ثَوْلَ النحل ينفرد بمميزات تجعل منطلقات وغايات وجوده مختلفة تماما عن تَيْنِكَ عند جيش النمل، ونذكر على سبيل العد ما يلي:
- أن النحل يأخذ من النبات رحيقه دون أن يدمره بل يساهم في تكاثره بتلقيحه.
- أنها تصنع خليتها من ذاتها وتُخرِج العسل من بطونها.
- أنها لا تنتج لذاتها فقط، بل لها ولغيرها من الكائنات.
- أن صناعتها من العسل تعد غذاء ودواء للعالمين.
- أن وجودها يحافظ على بقاء الأنواع النباتية الطبيعية.
لنستخلص أن مجتمع النمل يتمركز وجوده حول ذاته، فهو ينتفع ولا ينفع، ويتسبب في إبادة المحاصيل وتعرية الأشجار، فغاراته لا تبقي ولا تذر، فلا همَّ له سوى السطو والاستهلاك والتوسع استجابة لنزوعاته الغريزية. وكذلك هي حضارة الغرب متمركزة على ذاتها “occidocentrisme”، تسطو على كل خيرات العالم، ولا هَمَّ لها سوى التخزين والرفع من منسوب الاحتياط في كل شيء، كما أنها في حالة حرب دائمة إن تهددت مصالحها، إذ لا يهمها ما سنخلفه من خسائر بشرية، ولا من تلوث في البيئة، كل ما يهمها تأمين وجودها وضمان رفاهيتها. إن الحضارة الغربية بنظامها الليبرالي المتوحش أدخلت إنسان العالم في دوامة لا نهاية لها من العمل والإنتاج ثم الاستهلاك، حلقة مفرغة حولت الإنسان إلى مجرد آلة تنتج وتستهلك على حساب الحياة الطيبة والسعادة والكرامة والحرية وغيرها من القيم التي تحفظ إنسانية الإنسان. إن الحضارة الغربية الغرائزية الدوابية التي لا تعرف سوى الإنتاج والاستهلاك والتكاثر، أحالت الإنسان على سَوْرَة من الشقاء لا تنتهي، وجعلت العالم بغريزتها النملية مجرد مجال لغاراتها الاقتصادية والسياسية، ولْيَجُعْ كل العالم، ولْيَمُتْ كل العالم، ولْتَتَلوَّثْ كلها، المهم أن تستمر عجلة الإنتاج والاستهلاك والتوسع والتكاثر!
على العكس من ذلك فإن الحضارة الإسلامية شبيهة بجماعة النحل، فكلاهما لا يتصرف فقط بغرائزه بل يتصرف استجابة للوحي المسَدِّدِ والمُوَجِّه للغرائز؛ ألم تقرأ قوله تعالى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ هو إذن اتباع الوحي، وسلوك سبل الرب، ما جعل النحل ينتقي أطايب الطعام وينتج ما فيه شفاء وليس شقاء للناس، وكذلك هم المسلمون، أخرجهم الله ليكونوا خير أمة يدعون إلى الخير ويامرون بالمعروف وينهون عن المنكر، أصحاب رسالة ودعوة، يجوعون ليشبع غيرهم، ويجاهدون ويتدافعون ليأمن غيرهم، وظيفتهم لا تتمركز على ذاتهم بل وظيفتهم إقامة الشهادة على الناس وإسماعهم نداء الفطرة، وتخليصهم من ضنك الدنيا وضيقها، وتذكيرهم أنما الحياة الدنيا دار ابتلاء، فكما يقتات النحل على أفضل ما في الثمرات، يدعونا الحق إلى أحسن الأعمال ليَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أحْسَنُ عَمَلًا.
فشتان إذن بين حضارة استهلاكية دوابية لا ترى في الإنسان إلا قوته المنتجة وبطنه المستهلك وغرائزه الجائعة التي لا تشبع تماما كالنمل، وبين حضارة غايتها الرقي بالإنسان إلى درجة الآدمية حيث الشعور بكينونته وكرامته، واستعادة بشريته. حضارة تستهدي بالوحي الذي يخبرها أن الحياة الدنيا اقتحام للعقبة المطلة على الآخرة، وصعود العقبة لا يتم إلى بتحرير الإنسان وتلبية حاجياته الضرورية في عالم تسوده المرحمة عملا بقوله تعالى: فَلَا ٱقۡتَحَمَ ٱلۡعَقَبَةَ ١١ وَمَاۤ أَدۡرَىٰكَ مَا ٱلۡعَقَبَةُ ١٢ فَكُّ رَقَبَةٍ ١٣ أَوۡ إِطۡعَـٰمࣱ فِی یَوۡمࣲ ذِی مَسۡغَبَةࣲ ١٤ یَتِیمࣰا ذَا مَقۡرَبَةٍ ١٥ أَوۡ مِسۡكِینࣰا ذَا مَتۡرَبَةࣲ ١٦ ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَتَوَاصَوۡا۟ بِٱلصَّبۡرِ وَتَوَاصَوۡا۟ بِٱلۡمَرۡحَمَةِ ١٧ [البلد ١١-١٧].
إن حضارة الإسلام في جوهرها رسالة ودعوة لخصها الله سبحانه واصفا المهاجرين والأنصار لهم في قوله تعالى: لِلۡفُقَرَاۤءِ ٱلۡمُهَـٰجِرِینَ ٱلَّذِینَ أُخۡرِجُوا۟ مِن دِیَـٰرِهِمۡ وَأَمۡوَ ٰلِهِمۡ یَبۡتَغُونَ فَضۡلࣰا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَ ٰنࣰا وَیَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۤۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلصَّـٰدِقُونَ وَٱلَّذِینَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِیمَـٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ یُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَیۡهِمۡ وَلَا یَجِدُونَ فِی صُدُورِهِمۡ حَاجَةࣰ مِّمَّاۤ أُوتُوا۟ وَیُؤۡثِرُونَ عَلَىٰۤ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةࣱۚ وَمَن یُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ [الحشر 8-9] حضارة تقوم في أصلها على الإيمان المبدئي والمحبة والإيثار والمكارمة عوض الشح والأنانية.
وزبدة القول، إن أبا الحسن الندوي كان محقا عندما تساءل “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين” لقد خسر وجهته، وخسر سداده، وخسر آدميته، وخسر أخلاقه وقيمه الفطرية، خسر تعاونه وتكافله وتضامنه، خسر سلمه وإسلامه، خسر معرفة نفسه ومن ثم معرفة ربه، خسر معنى الحياة حيث أضحى العالم بلا معنى، والبقاء بلا جدوى، خسر أن يكون على أقل تقدير كالدواب غير العاقلة، ليكون أحط منها درجة بتعطيل عقله وإفساد فطرته أُولَئِكَ كَالأَنعَامِ بَلْ هُمُ أَضَلّ. إن واجب المسلمين اليوم أن يستعيدوا نَحلِيَتَهُم وأن يعودوا لوحي ربهم وهديه، وأن يستردوا قيادة هذا العالم التائه بعد أن يتحدوا كالنحل في خلية واحدة على قيادة واحدة هدفهم واحد ألا وهو دعوة البشرية إلى مشروع عمراني أخوي فيه شفاء للناس.