ما أشبه اليوم بالأمس، إن فصول ما يحدث اليوم في طوفان الأقصى من وحشية العدو وخذلان القريب، وضعفه وارتهانه الكلي للمحتل، يحيلنا للحديث عن غزوة الأحزاب، وهي تمثل درسا حيا لمن أراد أن يعتبر من السنن الإلهية في الكون التي تحدد ميزان القسط وويل المطففين.
فغزوة الخندق أو الأحزاب تمت من صنع اليهود الذين ألّبوا القبائل والأحزاب ضد المسلمين للقضاء على مهد الدعوة الإسلامية في المدينة المنورة، وشنّوا أكبر حركة تحريض آنذاك، حيث بدؤوا بمشركي قريش ثم توجهوا إلى قبائل العرب الأخرى متمثلة في غطفان وفزارة وأسد وأشجع وغيرها من القبائل حتى شكلوا قوة تحالف كبيرة، وجهزوا جيشا كبيرا لمحاصرة المدينة المنورة والهجوم على أهلها في عقر دارهم.
وما كان من رسول الله عليه الصلاة والسلام إلا أن وسّع الشورى بين أصحابه رضي الله عنهم يتداولون فيما يمكن أن يحميهم من غطرسة العدو ووحشيته، فاستقر بهم الأمر إلى حفر الخندق الذي حال بين العدو واقتحام المدينة.
هي عملية شارك فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، وقد شهدوا فيها مددا من السماء لا يستوعبه العقل الجاحد الذي لا يخبر العطاء الرباني الذي إذا أراد شيئا يكفي أن يقول له كن فيكون.
في خضم هذه الوقائع، انكشف المنافقون الذين يحملون خطابا انهزاميا مخزيا مذلًّا حتى قال فيهم الله تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (التوبة 46-47).
نفس الوقائع تعاد وأحداث تتكرر، ألم يفرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أيام الأحزاب حصارا عسكريا واقتصاديا حتى لم يجدوا ما يسدون به رمقهم؟! عاشوا أوقاتا عصيبة، إذ تكالب عليهم العدو من كل جانب، وقد صوّر القرآن الكريم ذلك المشهد بقول الله عز وجل: إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (الأحزاب 10).
كان المشهد امتحانا للإيمان واختبارا للقلوب والعزائم وكشفا للنفاق والخذلان، فثبتت عزائم المؤمنين، “ما ضعفوا ولا استكانوا” بالرغم من كل تلك الظروف العصيبة الشديدة التي أحاطت بالمسلمين من حصار جماعي شاركت فيه مختلف قبائل العرب مع اليهود، وشكلوا جيشا قويا بلغ عشرة آلاف مقاتل، نعم ثبتت عزائم المؤمنين ولم يفقدوا الأمل ولا الثقة بوعد الله ونصره، أخذوا بالأسباب كاملة من إعداد العدة والسعي والجهد والإقبال والإقدام وكان الدعاء كذلك سيد الموقف، فقد دعا رسول الله عليه الصلاة والسلام بقوله: “اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم”. فاستجاب الله تعالى لنبيه عليه أزكى الصلاة والسلام وللمؤمنين معه، فأقبلت بشائر الفرج والفتح، وتشتّتت جموع الكفر بسبب اختلاف القبائل واليهود مع بعضهم البعض، فألقي في قلوبهم الرعب وزلزلوا زلزالا شديدا، فكان يوم الفصل والنصر والتمكين.
ولن تكون معركة طوفان الأقصى بإذن الله تعالى إلا نسخة ثانية من الأحزاب في معناها ومبناها؛ وبعد أن تزول كل الأقنعة ويظهر الصادق من الكاذب الحاقد المنافق سيتنزل نصر الله نصرا عزيزا مكرما وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ ۚ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (الأنفال 62).