اليوم وبعد مرور عشرين عاما على ذلك الحدث التاريخي العظيم الذي لا يكاد يغادر مخيلتي إلى يومنا هذا، تذكرت تلك الليلة -وكأنها البارحة- التي عزمت فيها مع أصدقائي الأعزاء على السفر من طنجة العالية إلى العاصمة الرباط، قصد المشاركة في المسيرة المليونية التضامنية مع فلسطين القضية المركزية، كان ذلك يوم الأحد 28/نونبر/2004. وبينما كنت أستعد وأجمع بعض أغراضي، إذا بصوت مبحوح لا يكاد يبين، ينادي علي، ولم أميّز منه سوى إسمي وااا”صلاح إينو”، علمت حينها أنها أمي الحنون، فهي الوحيدة التي تستعمل معي هذه العبارة اللطيفة عند مناداتي، لتشعرني أنها تحبني وأنني إبنها البار، المرضي عندها والذي يسعفها في كل صغيرة وكبيرة، دون تباطؤ وتثاقل. نعم فلطالما صرحت لي بأنها كم مرة تفيق من الليل، فتجد لسانها ينطق تلقائيا: الله يرضى عليك “أصلاح إينو” الله يرضى عليك “أصلاح إينو” وتعيدها مرات ومرات، سألتها ذات يوم: وماذا عن أبنائك الأخرين؟! ويدها ماسكة بيدي أمازحها وتمازحني(…)
تنهدت قليلا ثم قالت يا ولدي إن القلب لا دخل لنا فيه، فهو يميل فطريا إلى من يحسن إليه، وأنا أرجو من الله ألا يحاسبني على هذا، قاطعتها تلقائيا: لا عليك ياأماه! فإن الرسول صلى الله وسلم كان يميل لحب عائشة ويناجي ربه فيقول “اللهم هذا فعلي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك”، ثم تسترسل حديثها وتقول: لكنك أنت يا “صلاح ينو” لك مكانة خاصة في القلب؛ لأنك تتجاوب مع إرادتي وتتحدث إليّ بهدوء وصفاء يشعرني بالراحة والطمأنينة والسكينة، خصوصا عندما تحدثني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغتي الريفية الأصيلة التي أفهمها، فتجدني أطرب فرحا بما أسمع، وأشعر وكأن روحي سافرت إلى ذلك المقام النبوي النوراني، تتمتع بالنظر إلى وجهه الشريف وحكمته البالغة في الجمع والتأليف(…) آه ! كيف لي بك يارسول الله، ياحبيبنا ياشفيعنا، وددت لو عشت بين يديك كما عاش الصحابة الكرام، يغرفون من معينك الذي لا ينضب، ويتمتعون بسماع أحاديثك والنظر إلى وضاءة وجهك… آه يارب..! وهنا أرى دمعاتها الساخنة تسيل على خديها ولهانا وشوقا إلى ذاك المقام المبجل، صلوات ربي وسلامه عليه.
ولكي أهون على قلبها المحترق، أحاول دائما وفي دعابة مزيجة بالابتسامة والفكاهة والمرح، أن أعيد إليها شيئا من الأمل، وأبشرها بأن هذه المعاني الروحية التي تذكرينها يا أماه! هي موجودة بيننا الآن، ونعيش نفحاتها مع رجل رباني إسمه عبد السلام ياسين، يدلنا على محبة الله ومحبة رسول الله، والسير على منهاجه القويم، وهو الذي يذكرنا بالآخرة في كل وقت وحين، ويوصينا بالإحسان إلى الوالدين عملا بقوله تعالى: وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا[ الإسراء: 23]” وكذا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “رضا الله في رضا الوالدين، وسَخَطُ الله في سَخَطِ الوالدين”. كما يذكرنا يا أماه، ويُلح ويُنبه على أهمية بر الوالدين في السلوك إلى الله، بتلك المقولة المشهورة “لكسروه الوالدين مايجبروه الصالحين”. الوالدان هما باب الجنة (أيماحنو) هذه كلمة بالأمازيغية تعني (يا أمي الحنون)… ثم تقاطعني حبيبتي المكلومة، شوقا وحماسا وفرحا متسائلة: وأين يوجد هذا الرجل ياولدي؟ وما السبيل للقاء به، أكيد هذا رجل رباني يا ولدي… (سعداتو سعداتو )..!
كنت أتحين الفرص المناسبة لأجيبها عن ما يعلق بذهنها من أسئلة وجدانية، فذات يوم وصلني أول كتاب للإمام رحمه الله بعنوان “محنة العقل المسلم بين سيادة الوحي وسيطرة الهوى”، أخذته معي إلى المنزل أقرأه وأقلب صفحاته بين يدي أمي الحنون، لأعرِّفها عن مشروع التربية والتغيير لهذا الرجل الحبيب، الذي لطالما حدثتها عن مجده وإرادته واجتهاده وحمله همّٓ الأمة والدعوة إلى الله. قلت لها هذا أول كتاب يصلني من وراء الحصار (لم تكن المسكينة تعرف أنه كان محاصرا في بيته ظلما وعدوانا) سألتني بفطرتها البريئة ما هذا الحصار يا ولدي؟
حاولت أن أبسط لها المعنى باللغة التي تفهمها حتى تدرك حقيقة الظلم الذي يمر به أستاذي المربي المحبوب والذي رزقه الله القبول بين الناس، رغم السجن والحصار وحجبه عن الأنظار. وبينما كنت مسترسلا في الحديث (…) قاطعتني بنبرتها الحزينة: (والله هذا المخزن ما كيحشم) أمثل هذا الرجل يحاصر ويمنع، وهو العالم والأديب والمفكر والداعية إلى الله… (الله ياخذ فيهم الحق)!
وذات مرة بلغني كتاب “عبد السلام ياسين حصار رجل أم حصار دعوة” للأستاذ فتح الله أرسلان- حفظه الله-، وكنت لأول مرة أرى صورته على الغلاف ومن وراء القضبان، حملته إلى أمي مسرعا لتتعرف على وجه الرجل الذي يهفو قلبها لمجالسته أو رؤيته ولو عن بعد(…) قلت لها: يا أماه ! وأخيرا وصلتنا صورته وجزء من حياته تلخص لنا قصة الإمام، وطريق دعوته إلى الله (…)، حدقت عينيها في الصورة على الكتاب، وأفصحت بلغة القلب: إن هذا الوجه ينضح بالنور، وحاشا أن يكون وجه كذاب، بل هو وجه من وجوه الجنة. (اللهم اجمعه بنبينا في الجنة واحشرنا معه يارب) تقول أمي رحمها الله.
وهكذا كنت كلما بلغني خبر عن الامام- رحمه الله- أو كتاب جديد، أغتنم الفرصة لأفتح حوارا ممتعا وشيقا مع حبيبتي أمي التي أعتبرها من تلميذاته النجيبات، برغم أميتها وعدم مجالسته والسماع منه مباشرة، ولكنها كانت تعيش روحانية عالية ومتصلة بالمصحوب (…) ويا ترى كم كانت فرحتها يوم قصصت عليها خبر أمّ الإمام رحمهما الله الشريفة للا رقية، وذلك لما كانت تحتضر وقد أغمي عليها، ثم عادت بعد ذلك لتترك رسالة وشهادة مدوية في إبنها البار بها، والمجاهد في سبيل الله: “إبني الله يٓرْبْحّو ويٓربّٓح لِ مْعٓه ويربح لِ شافو ويربح حتى لِ سْمٓع به” ثم إلتحقت بالرفيق الأعلى .
هذه الرواية سمعتها من سيدنا محمد العلاوي -رحمه الله- الذي كان حاضرا في هذا الموقف الجلل.
كانت أمي رحمها الله تحاول الالتزام بيوم المومن وليلته ماستطاعت بطريقتها الخاصة، وتقوم ما تيسر من الليل حبا ورغبة في لقاء مع الله، مهما كانت حالتها الصحية، ثم تمسك بسبحتها لتذكر الله ذكرا كثيرا كما كان يوصينا المرشد رحمه الله.
ولقد دار الزمان دورته ورفع الحصار عن الإمام سنة 2000 لنحظى بزيارته إلى مدينة طنجة حيث نقطن، لكنها رحمها الله لم يسعفها الحظ لتكون في استقباله ورؤيته، ولعل المرض حال دونها واللقاء (…)، ورغم ذلك طلبت مني أن أنقل لها مراسم الاستقبال، وبعضا من كلامه الموجه لإخوانه وأخواته، وكذلك كان، وحضرتُ في الصفوف الأولى مع المنظمين أثناء وصول موكب السيارات، ودخوله إلى بيت المضيف، حيث سيلقي كلمة تاريخية عن مدينة طنجة وكرم أهلها ومجدها…
ومما أنعم الله به علينا بعد رفع الحصار الغاشم، تلك الزيارات التي كانت تنظم للقاء بالإمام -رحمه الله- ومجالسته والسماع منه مباشرة في دار الجماعة بسلا كل يوم أحد، فكنت أغتنم كلما سنحت فرصة، وأحرص على أن أنقل تفاصيل تلك الزيارة الميمونة كاملة، بدءا بدخول الإمام وإلقائه التحية على الحاضرين وهو يلتفت بكليته يمينا ويسارا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أيتها الأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أيها الإخوان، وانتهاء ببعض التوصيات التربوية ثم ختم المجلس.
كانت أمي -رحمها الله- تنتظر عودتي بفارغ الصبر لأحدثها عن طبيعة اللقاء ورحانيته وأجوائه الإيمانية، وعن حال الإمام وتوجيهاته النورانية، فكانت تستمع إلي في سكينة وخشوع منقطع النظير، ثم تختم بكلمتها الصادقة المشتاقة: ياليتني تسعفني صحتي فأذهب معك يوما لأذوق طعم المجالسة وأقتبس من نور صحبته مباشرة… ياليتني.. ياليتني..!
وهكذا ظلت حبيبة قلبي تتمنى لقاء إمامنا وأستاذنا الذي سكن وجدانها صحبة وذكرا، إلى أن فارقت الحياة ليلة الإثنين 28/نونبر/2004 ، وكان آخر ما سمعت منها ذلك الصوت الممزوج بالحشرجة:” الله يرضى عليك أصلاحينو، سفر سعيد، بلغك الله على خير، وعدت على خير، ولا تنس أن تقرأ سلامي لسيدي عبد السلام ياسين، واسأله الدعاء فلعل هذا آخر عهدي بهذه الحياة الدنيا “.
ومن كمال صدق صحبتها للإمام، وبفضل الله وتوفيقه يسر الله زيارته بعد وفاتها بأسبوع، وبلّٓغته الوصية والرؤيا التي كان قد رآها والدي في شأن والدتي بعد رحيلها، ففرح واستبشر بها كثيرا، وعبّٓر لنا تلك الرؤيا المبشرة بحال أمي، وهي تتمتع بروحها الطاهرة في الجنة؛ لقد حدثتي أبي صبيحة اليوم الرابع بعد وفاتها رحمها الله، بأنه رآها -حفظه الله- في أحسن حال وأجمل صورة، وكأن قبرها رياض من الجنة، وتخبره بأن تلك الليلة التي إجتمع فيها الإخوان والأخوات على قراءة القرآن توسع فيها قبري مدّ بصري، وألقي علي نور طيلة تلك الليلة القرآنية. وهنا علّق الإمام رحمه الله على هذا الحال المبشر في القبر بقوله “هذا هو فضل دعاء الرابطة، وانظروا إلى فعله وأثره بعد الموت”. ثم قرأ على روحها الطاهرة سورة الفاتحة، مستحضرا الرحمة والمغفرة لها ولسائر المسلمين .
والحمد لله رب العالمين.
حرر ليلة الإثنين 14جمادى الثانية 1446 هجرية موافق 16 دجنبر 2024 ميلادية.