يقول الله تعالى في محكم تنزيله: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ (التوبة، 36). الله تعالى عندما خلق السماوات والأرض قدر سبحانه في سابق علمه وقدره حرمة هذه الشهور وتحريم القتال فيها، يقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ (المائدة، 2)، أي لا تستحلوا القتال في الشهر الحرام، فهي شهور يجب أن يسود فيها السلام ليأمن على نفسه من يقصد البيت للحج أو العمرة، ولكن إذا تعرض المسلمون لهجوم فيجب عليهم القتال لرد العدوان: فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ (البقرة، 191). قال البيهقي: كان أهل الجاهلية يعظمون هذه الشهور وخاصة رجب، فكانوا لا يتقاتلون فيه.
ويسمى رجب بالفرد لانفصاله عن باقي الأشهر الحرم، وسمي أيضا بالأصم لأن صوت السلاح لا يسمع فيه، حتى إن الرجل ليلقى قاتل أبيه فلا يقتله.
كان العرب يعظمون الأشهر الحرم حتى قبل الإسلام، ولكنهم يلجأون للعبث بها فيقدمون أو يؤخرون حسب حاجتهم للحرب، وهو ما عابه القرآن عليهم في قوله تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ۖ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ ۚ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (التوبة، 37)، والنسيء: تأخير الشهر عن موعده، فكانوا إذا أرادوا القتال وهم في محرم، حرموا عوضا عنه صفر وقاتلوا في المحرم، كانوا لا يقبلون أن يبقوا شهورا بدون قتال. وهو نوع من التحايل في التعامل مع أمر الله تعالى، مثل ما فعلت اليهود في قضية الاصطياد يوم السبت.
ورجب من الترجيب أي التعظيم، وترجيب الرماح: نزعها من أسنتها ما داموا لن يحاربوا، وسمي رجب مضر لأن مضر كانت تصون الشهر فلا تغيره مثل باقي العرب.
فلما جاء الإسلام أعاد الأمور إلى نصابها، وأكد حرمة هذه الشهور وحرمة تغييرها. عن أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض: السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم: ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان” (متفق عليه).
ولم يرد في شأن رجب تخصيص بعبادات معينة بأثر صحيح، والأحاديث التي تنسب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بشأن رجب لم يصح منها شيء، ولكنه من الأشهر الحرم التي يجب اغتنامها للإكثار من مختلف أنواع الطاعات.
ذلكَ الدِّينُ القَيِّمُ: الإسلام هو الدين الحق الذي يحقق للإنسان توازنه النفسي؛ فيأخذ الجسد حقه، وتأخذ الروح حقها، ويعرف الفرد حدوده وواجباته، وتعرف الجماعة واجباتها وحقوقها، في تناغم وانسجام لا يوجد إلا في هذا الدين.
فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ: ظلم الغير هو ظلم للنفس. يقول الله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ (البقرة، 84). يقول صاحب المنار في تفسيرها: “أورد سبحانه النهي عن سفك بعضهم دم بعض، وإخراج بعضهم بعضا من ديارهم وأوطانهم بعبارة تؤكد وحدة الأمة، وتحدث في النفس أثرا شريفا، ففي قوله تعالى: لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ جعل دم كل فرد من أفراد الأمة كأنه دم الآخر حتى إذا سفكه كان كأنه بخع نفسه وانتحر بيده، وقوله تعالى: وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ تسير على هذا النسق” (التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي). وهذا من جمال وإعجاز القرٱن الكريم. فالمسلمون نفس واحدة؛ يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، في يوم فتح مكة استجار مشركان بأم هانئ بنت أبي طالب بن عبد المطلب رضي الله عنها فأجارتهما، فأراد أخوها علي بن أبي طالب رضي الله عنه قتلهما فرفعت الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلة: زعم ابن أمي أنه قاتل رجلا أجرته، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: “قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ” (صحيح البخاري).
شدد الإسلام على تحريم الظلم لدرجة أن الله تعالى حرمه على نفسه: “عن أبي ذر الغفاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا” (رواه مسلم)، ومن أكبر الظلم الشرك بالله والتحاكم لغير شرع الله، لأنه باب كل المعاصي والمنكرات، سأل عبد الله بن مسعود رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أي الذنب أكبر عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك، قال: ونزلت هذه الآية تصديقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ (الفرقان: 68)“ (البخاري ومسلم).
التعظيم محله القلب؛ ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ (الحج، 32)، فإذا امتلأ القلب إيمانا وتقى فاض ذلك على الجوارح خشوعا وانكسارا لله تعالى، وتعظيما وتوقيرا لحرمات الله تعالى، ومنه تعظيم المومنين والمومنات، يقول عليه الصلاة والسلام: “المؤمن أعظم حرمة من الكعبة” (رواه الترمذي).
هجر المعاصي مطلوب في كل الشهور ولكنه أشد تأكيدا في هذه الحرم، لأن ثواب الطاعة يعظم بشرف الزمان والمكان، كما أن المعصية يتضاعف وزرها كذلك حسب الزمان والمكان الشريفين.
الله تعالى فضل أمكنة على أمكنة، وأزمنة على أزمنة. فضل سبحانه من الشهور رمضان والأشهر الحرم، ومن الليالي ليلة القدر، ومن الأيام يوم الجمعة والعشر الأوائل من ذي الحجة، ومن الخلق فضل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الأمكنة فضل مكة والمدينة وبيت المقدس عجل الله سبحانه تحريرها من الاحتلال الصهيوني. وهذا من فيض كرم الله وفضله سبحانه أن يسر لنا سبل التقرب إليه سبحانه وفرص تجديد إيماننا، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم “إن لله في أيام دهركم نفحات، ألا فتعرضوا لها لعله أن يصيبكم نفحة منها فلا تشقون بعدها أبدا” (المعجم الكبير للطبراني).
هذه أيام وليال مباركة، هي مواسم للخير، ومحطات ومناسبات جدير بنا أن نحرص على اغتنامها والتعرض فيها لرحمات الله تعالى بتطهير قلوبنا لتكون أهلا لاستقبال عطاءات الله تبارك وتعالى. فنجدد التوبة والإنابة لرب العالمين، يقول سبحانه: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (النور، 31)؛ الفلاح في الدنيا والآخرة مرهون بالعودة إلى دين الله والتقيد بشرعه عز وجل.
والطاعات إذا تتابعت غرست في القلب الخشية من الله وإرادة الآخرة والسعي لها، فيكون لدى المسلم وازع من نفسه، وإذا لم يبادر إلى التوبة من المعصية تتابعت المعاصي وانمحى من القلب تعظيم أوامر الله ليحل محله الاستخفاف بحرمات الله. عن حذيفة بن اليمان قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تعود القلوب على قلبين: قلب أسود مربادا كالكوز مجخيا، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض” (رواه مسلم). الرُّبْدةُ لونٌ بينَ السَّوادِ والغُبْرةِ. كالكُوزِ مُجَخِّيًا: كالإناءِ المائلِ المنكوسِ.
تعظيم شعائر الله وحرماته والتحرج من تجاوزها علامة على وجود التقوى في القلب. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخ المسلم لا يظلمه ولا يحقره، التقوى ههنا “و يشير إلى صدره ثلاث مرات”، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه” (رواه مسلم).
هذه التزكية والتربية الإيمانية هي التي تجعل المؤمن يستقبل أوامر الله ورسوله بالطاعة والإذعان والتعظيم: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا (النور، 51).
رجب هو محطة نقف فيها للتزود استعدادا لاستقبال شهر كريم، فضله الله على سائر الشهور، فيه ليلة هي خير من ألف شهر. فكيف يكون إقبالنا على الله في رمضان إن لم نستعد له في رجب وشعبان؟ الحصاد لابد أن تسبقه عملية تنقية الأرض لتكون صالحة لغرس البذور ثم تعهدها بالسقي، لذلك علينا تنقية آنية قلوبنا من جميع أمراض القلوب؛ من كبر وعجب وحقد وكراهية؛ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (الشعراء، 89)، حتى إذا أطل علينا رمضان وجد قلوبا سليمة، إلى ربها خاشعة، ونفوسا مطمئنة، مقبلة غير مدبرة. أما إذا كانت الغفلة والمعصية والتفريط في جنب الله هي ديدننا في رجب وشعبان، فأنى نجد من أنفسنا إقبالا على العبادة في رمضان واستمتاعا بها؟! فلا ثمار نجنيها في رمضان إن نحن أسأنا البذر والغرس والسقيا في رجب وشعبان.
اللهم تقبل منا رجب وشعبان وبلغنا رمضان فضلا منك وكرما.