يألف الناس زمنَ الصيف في أيام دهرهم إيلافَهُم للشمس التي تُطل بوجهها كل يوم من بزوغها إلى وقت المغيب. فما إن تبدأ الحياة -بإذن ربها- في التلون بالخريف، حتى تتهيأ النفوس للدخول في رحلة الشتاء، حيث تنفتح أبواب السماء بالغيث والمطر. وعلى ذلك تعلو جوانب الربيع بعطر شذي يؤذِن بقرب رحلة الصيف عندما تضرب خضراء البسيطة إلى صُفرتها؛ فإذا الأرض غير الأرض في نبتها، والسماء غير السماء في وجهها، والأجواء غير الأجواء في حرِّها، والناس غير الناس في رفاههم بالرحلة الصيفية وعجبهم وانفعالهم بها…
مَا أُحَيْلَى الصَّيْفَ مَا أَكْرَمَهْ
مَلَأَ الدّنْيَا رَخَاءً وَرَفَاها
1يألف الناس إذن في عوائدهم الصيف حلاوةً تملأ الدنيا رفاها، وعدولا عن عوائد الحياة، ورحلة للبحث عن الطمأنينة والرغد من العيش، وفضاء للسير في الأرض، وطلب السفر للكسب وغيره. وفي هذا المضمار جاء ذكر الصيف في رحاب القرآن الكريم في حديث الباري عز وجل عن رحلة الشتاء والصيف: لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف، فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف 2. فماذا في هذه الرحلة الصيفية الحميدة من مواقع الحكمة، ومضرب المثل في ضوء سورة قريش؟
وفي شأن ذلك، بإمكاننا أن نفترض بخصوص هذه السورة الكريمة أنها تحتوي على تركيبين أساسيين: أحدهما أصل الكلام في السورة وبُؤرته في قوله تعالى: فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف. والثاني فرع خادم لهذا الأصل وموجب للإقناع به. وهو قوله عز وجل: لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف. وقد اختار القرآن الكريم التمهيد بالفرع عن الأصل. ولهذا الترتيب الذي اختاره البيان القرآني قيمته ودلالته في السياق. حيث يرتبط بالحال الذي عليه المخاطَب في مألوفاته التي تصل لديه إلى حد القداسة. لقد خاطب القرآن الكريم قوم قريش بأكثر الأمور اهتماما وعناية في حياتهم، وهي السفر شتاء وصيفا من أجل المال والكسب والأمن الغذَائي. والخطاب أيضا فيه مِنةٌ من الخالق عز وجل على الناس بنِعم الأمن والرزق وكفاية الحاجات.
وإذا أضفنا إلى ما سبق، عنصرَ التكرار المنفصل لِلَفظةِ “الإيلاف” الذي يقوي معنى الانشداد البيِّن والواضح للقوم في إِلْفِهِمْ لرحلة الشتاء والصيف، تبين لنا مضرب المثل وموقع العبارة في الدلالة على معنى أراده المنعم عز وجل. إن القرآن الكريم كما قال ابن قتيبة رحمه الله: (لم ينزل الله شيئا منه إلا لينفع به عباده، ويدل به على معنى أراده) 3 . والمعنى -والله أعلم- فكما ألفتم الصيفَ والشتاء قِبلة للرحلة والسفر والبحث عن الكسب، وكما اعتدتم الصيف زمنا للحلاوة والرفاه والاستجمام وغيرها، تَآلفُوا دائبِين بالانجماع على الله عز وجل، ملازمين -دون فتور- عبادةَ ربِّ البيت أولى الحرمين وثاني القبلتين. والعبارة القرآنية في السياق أيضا تؤدي معنى التشبيه، أي مِثلَ دأبنا في الصيف للرحلة والسفر استجماما ورفاها، ودأبِ الذين من قبلنا قومِ قريش في السعي الدائب دُروجا على الكسب في رحلاتهم الشتوية والصيفية، ادْأَبُوا في السير إلى الله عز وجل المُنعم ذي الفضل العميم.
العبرة إذن، أن يرحل المرء عن طبعه وعوائده زمنَ الصيف في رحلةِ إنِّي ذاهبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ 4. أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما في الآية الكريمة: لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف 5 قال: (أُمرُوا أن يألفوا عبادةَ ربِّ هذا البيت كإلفهم رحلة الشتاء والصيف) 6. العبرة -وهذا جهد المُقل- أن تجرى الأمور في العبادات مجرى العناية والاهتمام بالعادات. فعلى الأقل القليل أن يكون الحال كالحال، والوضع كالوضع، في الحرص والاستعداد والمُضي إلى آخر الأشواط، كما درجنا في عاداتنا بحيث نصير منجزين لها من غير جهد، ولربما من غير نصب أو تعب، كما هو معلوم لدى الناس فيما يدأبون ويألفون.
بل العبرة أن يرقى المؤمن والمؤمنة في سفرهما الحميد إلى الله عز وجل، إلى منزلةٍ يتجاوزان فيها حالهما في مساواة إنجاز العادات، بحال إتيان العبادات. وليس لذلك سبيل إلا الصحبة والاتباع. فمن سواه صلى الله عليه وسلم يخلصنا من جذب العادة وتنويمها. سيما أن الله عز وجل طبعه على نعت ما ضل صاحبكم وما غَوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يُوحى علَّمَهُ شديدُ القوَّةِ ذُو مِرَّةٍ 7. فسلوكه عليه الصلاة والسلام -فعلا وحالا ومقالا- هو الميزان والفيصل ما بين العادة والعبادة. وفي سياق الحديث عن هذه المنزلة يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله في (مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين): (من لم يسافر ولم يخرج عن وطن طبعه ومرباه، وما ألِف عليه أصحابَه وأهلَ زمانه، فَهو بمعزل عن هذا) 8.
العِظة -عزيزي القارئ- أن نجعل الصيف، رحلةً للمُضي في مضمار الانبعاث الذاتي والجماعي على المحجة البيضاء، لتحقيق الغايات الكُبَر والإسراع في ذلك، دونما التفات إلى خصائص الحر فيه. فمن غير الفقه والكياسة تقديم الأعذار تلو الأعذار في ذلك. وفي السيرة العطرة أَنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وَسلم أَمَرَ الناسَ أَنْ يَنْبَعِثُوا معَهُ وَذلك في الصَّيْفِ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رسولَ اللَّهِ، الْحَرُّ شَديدٌ وَلا نستطيعُ الْخُروجَ، فَلا تَنْفِرْ فِي الْحَر، فقال: قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ 9.
وقانا الله حرها.. لا إله إلا الله محمد رسول الله.
[2] سورة قريش، الآيات: 1-5.
[3] تأويل مشكل القرآن، ابن قتيبة، المكتبة العلمية بيروت، 1981، ص 98.
[4] سورة الصافات، الآية 99.
[5] سورة قريش، الآيتان 1-2.
[6] فتح القدير، محمد بن علي بن محمد الشوكاني، دار المعرفة، 2004.
[7] النجم الآية 2-5.
[8] ابن قيم الجوزية، مدارج السالكين ص. 452.
[9] سورة التوبة آية 81.