حين يستقبل العالم عاما دراسيا جديدا، تشرع فيه المدارس والجامعات والمعاهد أبوابها لاستقبال الملايين من الطلاب والطالبات، وحين يسارع الآباء والأمهات لتسجيل الأبناء وانتقاء الشعب والتخصصات وحسم الاختيارات، وحين يحرص الأهل على ضمان السكن اللائق والشروط المناسبة لتحصيل دراسي مريح ومفيد، وحين تسارع الحكومات والوزارات لعرض البرامج وتقديم الإحصاءات وتخصيص الميزانيات، ينسى العالم أو يتناسى غزة؛ حيث لا مدارس، ولا دخولا مدرسيا، ولا طلبة ولا أساتذة. يتجاهل العالم المتحضر الحريص على نشر نور العلم وفضيلة المعرفة – زعما لا فعلا – شعبا يباد ماديا ويغتال معنويا ومعرفيا بشكل متعمد، فأعداء الحياة لا يمكن إلا أن يكونوا أعداء المعرفة والعلم، فالعلم حياة ثانية وأفق رحيب، والعلم إكسير الحياة لكل شعب يريد أن يتحرر ويحيا حياة العزة والكرامة.
فغزة التي تعلم العالم اليوم معاني الكرامة والرجولة والكبرياء، ويجلس تحت أقدامها الخبراء والعلماء ليتلقوا الدروس في علوم السياسة والعسكرية والإعلام والهندسة والطب وإدارة الأزمات، لم تكن لتقوم بذلك لولا أنها خاضت معركة العلم والمعرفة اختيارا واضطرارا، لولا أنها بدأت معركة التحرير من ساحات المساجد وباحات الجامعات والمدارس، بكل عزم وإرادة، رغم الحصار القاتل والعدوان المتواصل، غزة التي فاقت وتفوقت على أرقى الجامعات ترتيبا وبزت دولا مرفهة مترفة، تسبح فوق برك البترول، غزة التي بلغت فيها نسبة التعليم حسب الإحصاءات 96.4% من مجموع المواطنين ووصلت النسبة بين الذكور 98.3%، هي الأعلى عربياً، حيث تتبعها قطر، فيما يتذيل القائمة الصومال وموريتانيا والمغرب.
يراد اليوم القضاء على نهضة غزة العلمية التي هي نوع من المقاومة، يراد أن يفعل بها كما فعل بسوريا والعراق، يريد العدو الصهيوني إرجاعها قرونا إلى الوراء، وتريد قوى الاستكبار والاستعمار والاستحمار العالمي النكوص بها إلى ظلام الأمية والجهل، يراد إطفاء جذوة العلم التي حررتها، فصارت شعاع نور في أمة فشا فيها الجهل والخنوع والخضوع، لذا فليس مستغربا أن تدمر المدارس وتقصف الجامعات، بشكل متعمد وممنهج ومقصود، حتى التي ترفع علم الأمم المتحدة والأونروا، مما جعل 19 خبيرا ومقررا أمميا مستقلا، يتحدثون في بيان مشترك صدر في أبريل الماضي عن “الإبادة التعليمية”؛ فمع تضرر أو تدمير أكثر من 80% من مدارس غزة، قد يكون التساؤل معقولا عما إذا كان هناك جهد متعمد لتدمير نظام التعليم الفلسطيني بشكل شامل، وهو عمل يعرف باسم “الإبادة التعليمية”.
وقد نتج عن هذه “الإبادة التعليمية” خروج 92% منها عن الخدمة، فيتواصل للعام الثاني على التوالي حرمان طلبة قطاع غـزة البالغ عددهم أكثر من 650 ألف من حقهم في التعليم، واستـشهد أكثر من 11500 طفل فلسطيني في سن التمدرس، وأصيب عشرات الآلاف من الأطفال بجراح وإعاقات جسدية وصدمات نفسية، كما استــشهد أكثر من 750 موظفاً من العاملين في قطاع التعليم وأصيب الآلاف.
ولمعطيات أكثر تفصيلا، نشر “المكتب الإعلامي الحكومي” و”الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني” إحصاءات دقيقة في غشت الماضي، تؤكد أن العدو الصهيوني دمر بشكل ممنهج 117 مدرسة وجامعة تدميرا كليا، و332 مدرسة وجامعة تدميرا جزئيا، إلى جانب قتل 500 معلم ومدير مدرسة، و100 عالم وباحث وأستاذ جامعي، و9 آلاف طالب مدرسة وجامعة.
لا شك أن اغتيال العلماء والمفكرين، واستهداف المدارس، وتهجير العقول وتخريبها بالمخدرات والأفكار الهدامة والشاذة والإلحاد، وإخضاعها لتيارات التطبيع والاستلاب، هي مخططات شيطانية جاهلية لتدمير الأمة الإسلامية، وتكريس تبعيتها وتخلفها الفكري والعلمي، وإبقائها عالة على العالم وصفرا على هامش التأثير الإنساني.