من كتاب المدهش لأبي الفرج ابن الجوزي رحمه الله.
إخواني، سار المتقون ورجعنا، ووصلوا وانقطعنا، وأجابوا الداعي وامتنعنا، ونجوا من الأشراك ووقعنا. تعالوا ننظر في آثارهم، وندرس دارس أخبارهم، ونبك على التفريط ما نابنا، ونندب ما لحقنا وأصابنا.
ودعوا يوم النوى واستقلوا
ليت شعري بعدها أين حلوا
يا نسيم الريح بلغ إليهم
أن عقدي معهم لا يحل
سافر القوم على رواحل الصدق، فقطعوا أرض الصبر حتى وقعوا برياض الأنس، فعبقت قلوبهم بنشر القرب، وتعطرت بنسيم الوصل، فعادت سكرى من صِرْفِ سُلَافِ الوَجد، وعربدت على عالم الجسم، فكلما ربا الحب ذاب.
خذي بيدي ثم ارفعي الثوب فانظري
ضنا جسدي لكنني أتكتم
حمائم أرواحهم مسجونة في أقفاص أشباحهم، تصوت لشجو شوقها وتقلق لضيق حبسها.
البكاء دأبهم، والدمع شرابهم، والجوع طعامهم، والصمت كلامهم. فلو رأيتهم وعذالهم وقد زادوا بالعذل أثقالهم.
سلمت مما عناني فاستهنت به
لا يعرف الشجو إلا كل ذي شجن
شتان بين خلي مطلق وشَجٍ
في ربقة الحب كالمصفود في قرن
أمسيت تشهب باد من ضنى جسدي
بداخل من جوى في القلب مكتمن
إن كان يوجب ضري رحمتي فرضي
بسوء حالي وحل للضنى بدني
منحتك القلب لا أبغي به ثمنا
إلا رضاك ووافقري إلى الثمن
أعندك من حديثهم خبر، ألك في طريقهم أثر، رقدت ولم ترث للساهر، وليل المحب بلا آخر، ولم تدر بعد ذهاب الرقاد، ما فعل الدمع بالناظر.
نازلهم الخوف فصاروا وَلِهِينَ، وفاجأهم الفكر فعادوا متحيرين، وجن عليهم الليل فرآهم ساهرين، وهبت رياح الأسحار فمالوا مستغفرين، فإذا رجعوا وقت الفجر بالأجر نادى منادي الهجر: يا خيبة النائمين!
ولما وقفنا والرسائل بيننا
دموع نهاها الوجد أن تتوقفا
ذكرنا الليالي بالعقيق وظلها
الأنيق فقطعن القلوب تأسفاجليت أوصاف الحبيب في حلية الكمال، فقاموا على أقدام الشوق يسبحون في فلوات الوجد، فلو رأيتموهم لقلتم مجانين. هيهات! من لا يعرف مناسك الحج نسب المحرمين إلى الخبل! الناس يضحكون وهم يبكون، ويفرحون وهم يحزنون، وينامون وهم يسهرون.
تركت ليلي أمد من نفسي
واأسفي للفراق واأسفي!
لما تمكنت المعرفة من قلوبهم أثرت شدة الخوف، فارتفع ضجيج الوجد. رأى الصديق رضي الله عنه طائرا فقال: طوبى لك يا طائر تقع على الشجر، وتأكل من الثمر، ولا حساب عليك، ليتني كنت مثلك.
وقال عمر رضي الله عنه: ليتني كنت تِبْنَةً، ليت أمي لم تلدني. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ودِدت أني إذا مت لا أبعث. وقال عمران بن حصين رضي الله عنه: ليتني كنت رمادا. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: ليتني كنت شجرة تعضد. وقالت عائشة رضي الله عنها: ليتني كنت نسيا منسيا. ودخلوا على عطاء السلمي وحوله بلل، فظنوه قد توضأ، فقالت عجوز في داره: هذه دموعه .
كل سحاب أمطرت أرضكم
حاملة للماء من أدمعي
وكل ريح زعزعت تربكم
فإنها الزفرة من أضلعيأتاهم من الله وعيد وقذهم، فباتوا على حرق، وأكلوا على تنغيص، فنومهم نوم الغرقى، وأكلهم أكل المرضى. عجزت أبدانهم عما حملت قلوبهم فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، قال فرقد رحمه الله: (دخلت بيت المقدس خمسمائة عذراء لباسهن الصوف والمسوح، فتذاكرن ثواب الله وعقابه، فمتن جميعا في مقام واحد). قال أبو طارق رحمه الله: (شهدت ثلاثين رجلا دخلوا مجالس الذكر يمشون بأرجلهم صحاحا إلى المجلس، وأجوافهم والله قرحة، فلما سمعوا الذكر انصدعت قلوبهم).
قال عبد الواحد بن زيد رحمه الله: (لو رأيت الحسن لقلت: قد بث عليه حزن الخلائق. ولو رأيت يزيد الرقاشي لقلت: مثكل). أقبل ولد يزيد يوما يعاتبه على كثرة بكائه، فجعل يصرخ ويبكي حتى غشي عليه، فقالت أمه: يا بني ما أردت بهذا؟ فقال: إنما أردت أن أهون عليه.
المحب إن تذكر الربع حنّ، وإن تفكر في البعد أنّ، وإن جن عليه الليل أظهر ما أجن، قطع عليه رضاع الوصال فلم يتهن.
يا بريق الحي حرمت المناما
فانقضى الليل سهادا وقياما