مقدمة
مما سلم به الأصحاب الكرام – وقد جعلهم الله أمنة للأمة – وأذنوا به وشجعوه: أنهم كلما همهم أمر فزعوا إلى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي وعدهم؛ ووعد الأمة؛ بالسكينة والرحمة والمغفرة و“بالمحبة والصحبة … خالطت القلوب بشاشتها وحولت غلظة الأعراب رحمة ورقة، والمحبة دفعت المحبين الأصحاب للبذل والعمل والصدق في كل ذلك… فذكروا الله وانجلت لهم لوائح الغيب” 1. وإلى مجالس الإيمان، حيث العلم والتعلم والذكر والنظر، يذكر بعضهم البعض بالمصير واليوم الآخر وبفضل الله عليهم، كي يزداد إيمانهم ويتقوى الإسلام غدا، ص 252، بتصرف..
لقد كانوا رضي الله عنهم أشد الناس اتهاما لأنفسهم، إلى درجة اتهامها بالنفاق، وهم من هم، يجلسون لتطهير القلوب ونيل شرف الذكر في الملإ الأعلى، وشرف الصحبة والخلة، لأن “المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالِل” 2.
نفحاتهم امتدت زمانا ومكانا ووسمت بصفة الخلود، فوصلت إلى إخوان رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقا ومسكا وعنبرا، فها هم الإخوان اليوم يحيون النداء: “تعال نؤمن ساعة“.
تعال نؤمن ساعة
“أعطنا وقتك! هَلُمَّ نصطَنِعْ وسيلة ليمُرَّ نصيبُ آخرتنا بنصيب دنيانا فينتظِمَهُ!” 3، تعال نُؤمنْ ساعة! على “منهاجُ النبوة والصحبة. ولا سبيل لإصلاح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، كما قال إمامنا مالك رحمه الله” 4. تعال نؤمن ساعة: دعوة خالدة من صحابي خالد، من أمير شاعر لرسول الله الذي قال فيه: “فو الذي نفْسي بيده لكلامُه عليهم أشدُّ مِن وقْع النَّبْل” 5، وأنصاري خزرجي بدري نال السبق، ونقيب مع الاثني عشر، صافَح، في بَيعة العَقبة الثانية، وبايَع وسلَّم، دعوة خالدة من شهيد مؤتة، من سعيد أسعده الله بسعادة الدارين.
دعوة خالدة نال بها الخلود ونال شرف دعاء الرحمة والرضوان من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين قال: “يرحم الله ابن رَواحة. إنه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة” 6.
دعوة من رجل عرف معنى الوفاء فوفى، فازداد أخوه وصاحبه تعلقا به وأصبح ذكره وردا يوميا له، دعوة خالدة من رجل تقي خائف وجل، كان يُرى صائما في السفر والحر، وما في القوم أحد صائم إلا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو، إنه ابن رواحة الذي قال:
أقسمت يا نفس لتنزلنه ** طائعة أو لتكرهنّـــــه
ما لي أراك تكرهين الجنة ** إن أجلب الناس وشدوا الرنة
لطالما قد كنت مطمئنة ** هل أنت إلا نطفةٌ في شنه
ثم قال:
يا نفس إلا تُقتلى تموتي ** هذا حمامُ الموت قد صليت
وما تمنيت فقد لقيتِ ** إن تفعلي فعلهما هُديت
وقال أيضا:
لَكِنَّنِي أَسْأَلُ الرَّحْمَنَ مَغْفِرَةً ** وَضَرْبَةً ذَاتَ فَزْعٍ تَقْذِفُ الزَّبَدَا
أَوْ طَعْنَةً بِيَدَيْ حَرَّانَ مُجْهِزَةً ** بِحَرْبَةٍ تُنْفِذُ الْأَحْشَاءَ وَالْكَبِدَا
حَتَّى يَقُولُوا إِذَا مَرُّوا عَلَى جَدَثِي ** يَا أَرْشَدَ اللَّهُ مِنْ غَازٍ وَقَدْ رَشَدَا
دعوة صادقة من أحد القواد الثلاثة الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه: (زَيدٌ بن حارثةَ، وجعفر بنُ أبي طالب، وعبدُ الله بن رَواحَة رضي الله عنهم)، حين بعثوا في غزوة مُؤتَة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فاستشهدوا بعد تعاقبهم على حمل لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
دعوة من رجل نعاه الغيب قبل أن تأتي الأخبار إلى الحبيب صلى الله عليه وسلم، فذرفت عيناه، وبكاه الأصحاب، وعندما سئلوا قالوا: “ومالنا لا نبكي وقد قتل خيارنا وأشرافنا وأهل الفضل فينا!” 7، وكيف لا يبكي أمثاله الإخوان وبإحياء دعوته: “تعال نؤمن ساعة” في رياض الجنة تتنزل الرحمات، فعلى هذا عضوا بالنواجد فلنتبع، وإيانا وتسييب الوقت في اللغو وقيل وقال واتباع الشهوات.
الأصحاب والإخوان
“هم الأصحاب ونحن الإخوان. جسومنا هنا الآن، وقلوبنا وعقولنا يجب أن ترتفع إلى هناك، بإزاء القرآن، وعند قدم المنبر الشريف، وتأسياً مباشرا بأهل الاقتداء والاهتداء والعهد” 8.
تتلمذ الأصحاب على يد الحبيب صلى الله عليه وسلم وتأسوا به في كل صغيرة وكبيرة، وتلقفوا أوامر الوحي ونواهيه بنية التنفيذ لا بنية الترف، جثوا على الركب وتعلموا عند قدم المنبر الشريف، وأخذوا روح العلم امتثالا لا جدالا، محبة وتأسيا، اقتداء واهتداء ووفاء للحبيب وبه، وكان أحب إليهم من الماء البارد على الظمإ، بل منهم من يرتوي بارتواء رسول الله ولا ظمأ، أمنهم بصحبته لهم ودعائه، وجعلهم أمنة للأمة وحربا على أعدائه، لكن الحبيب لم يُنسه أول أمته عن آخره فقال: “مثل أمتي مثل المطر، لا يُدْرَى آخره خير أم أوله!” 9، فكانت بشارة عظيمة لإخوانه من بعده، وزاد ذلك في لوعته بهم واشتياقه، وأعلنها مدوية أمام أصحابه: “اشتقت إلى إخواني الذين يومنون بي ولم يروني، يود أحدهم لو يفديني بماله وولده”.
علم الإخوان اشتياقه، فطارت منهم الأفئدة وخفت إليه، تبكي لوعتها بالحبيب وبُعد الزمان، لعل الشوق يقربه، بل ارتفعت القلوب منهم، قبل العقول إلى هناك يتتلمذون عليه كما تتلمذ أول الأمة به، وعلموا يقينا “أن علاج الفتنة وقلْعَ «أم الفتن» لا وسيلة له إلا إيقاظ العباد ليتحرروا من كل عبودية للهوَى وليطيعوا أمر الله بالوَلاية الجامعة” 10.
فليت شعرهم بقرب لا بعد ولا نأي بعده، لشفاء غليان صدورهم بما شفيت به صدور الصحب حين قال لهم: “لا تبكوا، إنما مثل أمتي مثل حديقة، قام عليها صاحبها، فاجتث رواكبها وهيأ ساكنها وحلق سعفها. فأطعمت عاما فوجا ثم عاما فوجا ثم عاما فوجا، فلعل آخرها طعما يكون أجودها قنوانا وأطولها شمراخا! والذي بعثني بالحق! ليجدن ابن مريم في أمتي خلفاء عن حوارييه!” 11. اللهم صل على الحبيب وآله وصحبه وإخوانه وحزبه.
[2] رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة.
[3] عبد السلام ياسين، كتاب العدل، ص: 588.
[4] كتاب العدل، ص: 588.
[5] أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بجر النسائي، سنن النسائي، ج: 5، ص: 212.
[6] الإمام أحمد بإسناد حسن عن أنس.
[7] أخرجه الحكيم وأبو نعيم، نقلا عن سنة الله لعبدالسلام ياسين رحمه الله.
[8] ياسين عبدالسلام، الإحسان: 1، ص: 108.
[9] رواه الترمذي بسند حسن عن أنس رضي الله عنه
[10] ياسين عبدالسلام، العدل، ص: 588.
[11] أخرجه الحكيم وأبو نعيم، نقلا عن سنة الله لعبدالسلام ياسين رحمه الله.