تشهد بلادنا في هذه الأيام نقاشا مجتمعيا حادا حول “مطلب تعديل مدونة الأسرة”؛ نقاش اختلفت فيه الأنظارُ والآراءُ حولَ ما اصطُلِحَ عليه بإشكاليَّة (النَّص والاجتهاد) أو (الثابتُ والمتغيِّرُ).
ولأن المقام لا يسمح بتناول هذه الإشكاليَّةِ ضِمنَ تصوُّرٍ واضح لمعرفةِ أحكامِ الأسرةِ الثَّابتةِ مِنَ المتغيِّرَةِ، فإني أكتفي في هذه العجالة بالإشارة إلى بعض المقدمات التي إن أثبتت، خلصنا إلى نتائج جامعة قاصدة وهي:
المقدمة الأولى: سياج الشريعة
إنَّ في الشَّريعةِ الإسلاميَّة كلَّ مُقَوِّماتِ العُمومِ المكانيِّ والزَّمانيِّ، والذي يجعَلُها صالحةً لجميعِ النَّاسِ، وفي جميعِ الأحوالِ، لذا كان المُعوَّل بعد الله تعالى لكل خائض في مطلب تعديل المدونة على سياج الشريعة. “إذ لا عاصم من الزيغ العامد والخطإ غير الراشد إلا معيار التقوى وتعليم الهدى”، لذلك كان على كل خائض في هذا المجال أن يحرص على حفظ الشرع والوقوف عند الأمر والنهي وتعظيم شعائر الله وحرماته لأن التزام شرع الله “معيار لا يخطئ في معرفة الصادقين وتمييز أهل الزَّغْل والتخليط”.
المقدمة الثانية: تماسك الأسرة
تعد الأسرة المسلمة من أهم ركائز التغيير المنشود، فبداية التغيير تنطلق من البيت المسلم المحصّن من الأهواء، الحافظ للفطرة من الانحراف، المتطلع إلى ما عند الله عز وجل، فأهم عنصرين في عملية التغيير هما إصلاح الحكم وإصلاح الأسرة، لذلك ينبغي أن يكون المقصد الأسمى من أي تعديل هو تحصين الأسرة من التفكك والانحلال، لأن الشريعة الإسلامية جعلت هذا المقصد من آكد واجباتها.
المقدمة الثالثة: ثبات الأصول
الحُكم الثَّابتِ هو ما كان باقيًا على أصلِ مشروعِيَّتِه بدليلٍ قطعيٍّ لِذاتِه أو لِغَيرِه، ولم يُرفَع زَمَنَ الوَحيِ، ومن أهم موجبات ثبات الأحكام، نجد مسألة ربانيَّة الشَّريعة، وثبات الفِطرةِ، وثبات اللُّغةِ.
ثبات يطال عدة مجالات نذكر منها: الحقائِقَ الإيمانيَّة، والأخبارَ الغَيبيَّة، وشعائِرَ الدين، وأصول أحكامِ نِظامِ الأسرةِ… ومن أحكام الأسرة الثَّابتة ومقاصدها، نذكر على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
– تأسيس أسرة مستقرة لا يكونُ إلَّا بالزَّواجِ الشرعي.
– حُرمة نِكاح المُحَرَّمات بِسَبَب القَرابةِ، أو المُصاهَرة أو الرَّضاعِ.
– أصول وكليات الإرث المحكمة الجامعة غير المنسوخة.
المقدمة الرابعة: تغير الفروع
الحُكم المُتغَيِّر هو ما كان قابلًا للاجتهادِ فيه وَفْقَ مناهِجِ الاستنباطِ المُعتَبَرة، ومن أهم موجبات تغير الأحكام نجد عالَمِيَّة الإسلامِ، تغيُّر الحُكم لتغيُّرِ عِلَّتِه أو مَقصِدِه، وتغيُّر الحُكم لتغيُّر مصلحَتِه، وحتى لا يكون هذا مدخلا لأهل التلبيس والتحريف والانسلاخ عن الدين، حدد الفقهاء لتغير الأحكام عموما وأحكام الأسرة على وجه الخصوص ضابطين اثنين:
– أن يكون التغيُّرُ موافِقًا لقَصدِ الشَّارِع.
– ألَّا يُصادِمَ التغييرُ نصًّا شرعيًّا.
المقدمة الخامسة: مراعاة الواقع
ونحن نناقش تعديل مدونة الأسرة، لا بد من ضرورةُ دراسةِ المُستجَدَّات وتكييفِها، طبقًا لقَواعِدِ الفِقه الإسلاميِّ، فلا ينبغي أن نغفل أن إعمال المدونة سيكون في واقع الناس على اختلاف هممهم وفهمهم وعزمهم، ولذلك لا بد من استحضار الأضرار التي لحقت بعض مكونات الأسرة بسبب الفهم السطحي أو التطبيق المختل لبعض المقتضيات الشرعية، أو بسبب مَسالِكِ بعض دُعاةِ تغييرِ الأحكامِ الشَّرعية الثَّابتة، القائمة على الإفراطِ في الاجتهادِ المقاصِديِّ، أو الخضوع والانصياع الكلي لبعض الاتِّفاقياتِ والمواثيقِ الدَّوليَّةِ المخالِفةِ لأحكامِ المرأةِ والأسرةِ، والساعية إلى عولَمةِ القِيَمِ الغَربيَّة.
استحضار للواقع لا بد منه، لا لنخضع لإكراهاته بل لنقتحم عقباته برحمة قلبية وحكمة عقلية وحضور مسؤول ومجادلة بالحسنى، وحرصا على وحدة القلوب والتصور والتقدير.
فما بين التهوين من مخططات استهداف الأسرة “إلغاء القِوامةِ واعتبارها عُنفًا ضِدَّ المرأة واستبدالها بالشَّراكةِ، وإقرار الزِّنا والشُّذوذ، وإعطاء الشَّواذِّ كافَّةَ الحقوقِ؛ منها الزَّواجُ، وتكوينُ الأُسَر، واعتبار الأُمومةِ وظيفةً اجتماعيَّةً بدلًا مِن أن تكونَ وظيفةً فِطريَّةً” والتهويل من مخلفات فقه منحبس امتهن المرأة وظلم الأسرة وأجهز على مكتسبات المستضعفين، ومكن للمستكبرين والطغاة المتجبرين، تمت الخلاص والفلاح.
المقدمة السادسة: الحكمة الغائية
لكل أحكامِ الأسرةِ الثَّابتة المرادِ تَغييرُها مقاصد شرعية لو علمها دعاة التغيير لأحجموا وألجموا ألسنتهم عن الخوض فيما لا يعلمون، فمثلا هناك حِكمة مِن إباحةِ تعَدُّدِ الزَّوجاتِ، لأنَّها حَلٌّ لحالات استثنائية كمُشكلةِ العُقمِ، ومَرَضِ الزَّوجة المُزمِن، وغيرها من المقاصِد، كما أن مِن مقاصِدِ الطَّلاقِ الرَّجعيِّ إعطاءَ فُرصةٍ للزَّوجِ لِمُراجعةِ نفسِه وتدارُك الأمرِ إن أمكَنَ، واللُّطفَ الرَّبانيَّ بالزَّوجةِ في استمرارِ حياتِها الزَّوجيَّة، واستشعارَ نعمةِ الحياةِ الزَّوجية لِكلا الزَّوجينِ.
المقدمة السابعة: الجانب الإحساني
أسبقية البعد الإحساني الرباني في بناء البيت المسلم، وكذا في تربية النشء على كل الجوانب الأخرى والمهمة بطبيعة الحال. إلا أن الجانب الإحساني ينبغي أن يبقى هو الأساس من بداية الحياة الزوجية إلى ما بعد الموت.