«من ظن انفكاك لطفه عن قدره، فذلك لقصور نظره» 1
مقدمة
يتعرض المؤمنون في كل أرجاء الأرض، إلى شتى أنواع الفتن والمحن. يُفتن المؤمن بنوازع نفسه، ونزغات شيطانه، كما يُفتن من محيطه، وفي مصادر رزقه، ويلقى العنت جراء التسلط الداخلي، والتكالب الخارجي على الأمة، الذي ازداد شراسة وانكشافا في العدوان الأخير على غزة. حروب ضارية، يحتاج فيها المؤمن إلى سلاح اليقين، يُعِينه على الصبر والتحمل والثبات، مهما عظمت التضحيات. اليقين فيما عند الله من ثواب، وفيما وعد به المؤمنين المجاهدين، من نصر وكرامة وتمكين في الأرض. فما هو اليقين؟ وكيف نتعلمه؟
هدف المقال: التعريف باليقين، ومراتبه، وأهميته، ثم التركيز على العوامل التربوية الإيمانية، التي تساعد المؤمن على تعلم اليقين، للنجاح في مواجهة العقبات والبلاءات. ويعتمد بالأساس، كتابات الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله، على الرابط: https://siraj.net، وتوجيهاته التربوية على اليوتوب.
1- معنى اليقين
في تعريف أهل اللغة: (اليَقِينُ: العِلْم وإزاحة الشك وتحقيقُ الأَمر، وقد أَيْقَنَ يُوقِنُ إيقاناً، فهو مُوقِنٌ، ويَقِنَ يَيْقَن يَقَناً -ويَقْناً-، فهو يَقِنٌ. واليَقِين: نَقيض الشك، والعلم: نقيضُ الجهل، تقول عَلِمْتُه يَقيناً) 2. و(أَيْقَنَ الأمرَ وأيْقَنَ به، ويَقِنَهُ ويَقِنَ به، وتَيَقَّنَه وتَيَقَّنَ به، واسْتَيْقَنَهُ واسْتَيْقَنَ بِهِ، كُلّهُ بمعْنًى واحِدٍ) 3. ويجوز القول: أيقن به وأيقن منه، فقد أجاز اللغويون نيابة حروف الجر بعضها عن بعض، كما في قوله تعالى: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ 4، أي: بأمر الله.
يقول الأستاذ ياسين، في بيان معنى اليقين، انطلاقا من قوله تعالى: إِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَٱلسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِى مَا ٱلسَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ 5: (اليقين ثبات، ونقيضه اضطراب مستمر، “ما ندري ما الساعة”، اللاأدرية: اضطراب، “إن نظن إلا ظنا”، والظن: تقلب دائم بين الأفكار والأخبار) 6. ويعبر القرآن عن هذه الحالة من التردد وعدم الاستقرار على كلمة ثابتة، بالقول: إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ 7، بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ 8.
وقد بيَّن أهل اللغة، بعض النقاط التي تميز اليقين: 1- اليقين يأتي بعد الشك، ولذلك لا يطلق على “علم الله”. 2- اليقين اعتقاد راسخ، أعلى من المعرفة. يقول الراغب: (اليقين من صفة العلم فوق المعرفة والدّراية وأخواتها، يقال: عِلْمَ يَقِينٍ، ولا يقال: معرفةَ يَقِينٍ، وهو سكون الفهم مع ثبات الحكم) 9. 3- الإيقان لا يعني الإيمان بالضرورة. قال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ 10. 4- والإيمان لا يعني الإيقان بالضرورة، فقد يؤمن الرجل تصديقا وتسليما، ولا يكمل إيمانه إلا حين يصل إلى درجة الإيقان. جاء في الأثر: (الصبر شطر الإيمان، واليقين الإيمان كله) 11.
2- مراتب اليقين
جاء في “كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم” للتهانوي: (اعلم أنّ اليقين عبارة عن الاعتقاد الجازم الراسخ الثابت وذلك على ثلاث مراتب. الأولى: ما يحصل من الدلائل القطعية من البرهان أو الخبر المتواتر ونحوهما وهو علم اليقين/بالدليل. والثانية: ما يحصل من المشاهدة وهو عين اليقين/بالمشاهدة. والثالثة: ما يحصل بالشيء بعد اتصاف العالم بذلك الشيء وهو حقّ اليقين/بالتحقق) 12. ومثال ذلك: (عِلْمُ النَّار بِأَنَّهَا جسم مُحرقٌ علمُ الْيَقِين. ومُعاينتها عينُ الْيَقِين. والحرقُ فِيهَا حق الْيَقِين) 13.
واليقين عند أهل الحقيقة، الذين تحققوا بالإيمان: (رؤية العيان بقوة الإيمان، لا بالحجة والبرهان. وقيل: مشاهدة الغيوب بصفاء القلوب، وملاحظة الأسرار –حقائق الأمور- بمحافظة الأفكار -صيانتها-) 14. وهو عين اليقين/بالمشاهدة القلبية، أو البصيرة. وفي هذا يقول ابن عطاء الله السكندري رحمه الله: (لو أشرق لك نور اليقين، لرأيت الآخرة أقرب إليك من أن ترحل إليها) 15. ويقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: (الإيقان درجة عالية من الإيمان. الإيقان أن تكون الآخرة نصْبَ عينـك كأنها رأيَ العين) 16.
3- أهمية اليقين
لليقين آثار تربوية إيمانية عديدة. وأبرز هذه الآثار بإيجاز:
– زيادة المعرفة وطمأنينة القلب. قال تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي 17. جاء في تفسير الآية: (أخبر تعالى عن خليله إبراهيم أنه سأله أن يريه ببصره كيف يحيي الموتى، لأنه قد تيقن ذلك بخبر الله تعالى، ولكنه أحب أن يشاهده عيانا ليحصل له مرتبة عين اليقين… وذلك أنه بتوارد الأدلة اليقينية مما يزداد به الإيمان ويكمل به الإيقان ويسعى في نيله أولو العرفان) 18.
– العمل الجاد والإخلاص فيه. فاليقين باعث أساسي على العمل الجاد. (قال لقمان لابنه: يا بني العمل لا يُستطاع إلا باليقين، ومن يضعف يقينه يضعف عمله) 19. وعن سفيان الثوري قال: (لو أن اليقين وقع في القلب كما ينبغي لطار اشتياقا إلى الجنة وهربا من النار) 20. واليقين باعث على الإخلاص. وقد رأينا سابقا أن: (اليقين الإيمان كله) 21، والمراد: كمال الإيمان وهو الإحسان. والإحسان في الحديث النبوي: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) 22. وهو تعبير عن الإخلاص في أرقى صور العبودية والمراقبة لله تعالى.
– الصبر والثبات، والإمامة في الدين. يقول الأستاذ ياسين رحمه الله: (اللب، وهو الصبر مع المؤمنين، والثبات على الحق. قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ 23. إشارة إلى أن الخصلة العظمى التي أهلت رسل الله للإمامة هي الصبر. ثم قال جل من قائل: وَكَانُواْ بِـَٔايَٰتِنَا يُوقِنُونَ 24. فَقُرن بالصبر الثبات على الحق) 25. ويستفاد منه أن اليقين يرادف 26 “الثبات على الحق”، لأنه يدفع إلى مزيد من الصبر والتحمل.
– الاستفادة من القرآن: هدى ورحمة. قال تعالى: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ 27. يقول سيد قطب رحمه الله في التفسير: (هؤلاء المحسنون هم الذين يكون الكتاب لهم هدى ورحمة؛ لأنهم بما في قلوبهم من تفتح وشفافية يجدون في صحبة هذا الكتاب راحة وطمأنينة؛ ويتصلون بما في طبيعته من هدى ونور، ويدركون مراميه وأهدافه الحكيمة) 28. وهذا المعنى، يؤكد ما جاء في الحديث النبوي، عن عبد الله بن جندب رضي الله عنه: (كنَّا معَ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ونحنُ فتيانٌ حزاورةٌ -نَشِطون- فتعلَّمنا الإيمانَ قبلَ أن نتعلَّمَ القرآنَ ثمَّ تعلَّمنا القرآنَ فازددنا بِه إيمانًا) 29.
– الترفع عن متاع الدنيا والتطلع إلى الآخرة. وهو من سمات المحسنين، الذين يعرفون حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة عن يقين كأنه رأي العين. يقول سيد قطب رحمه الله في تفسير آيات “لقمان: 2-4”: (اليقين بالآخرة هو الضمان ليقظة القلب البشري، وتطلعه إلى ما عند الله، واستعلائه على أوهاق الأرض، وترفعه على متاع الحياة الدنيا؛ ومراقبة الله في السر والعلن وفي الدقيق والجليل؛ والوصول إلى درجة الإحسان التي سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: “الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك”) 30.
ولليقين آثار تربوية إيمانية كثيرة، لا يمكن استقصاؤها في هذه المقالة. يكفي أنه يرتبط بالإحسان، وما ينطوي عليه من صفات إيمانية، كالخشية والخوف والهيبة والتعظيم والرضى والتسليم…
والمؤمن عموما يطمئن إلى قدر الله تعالى، كما يثق بوعد الله تعالى للصابرين. وهذا الإيمان واليقين، يعطيه راحة نفسية، وقوة على الصبر والتحمل، والثبات على الحق، في مواجهة الشدائد.
وهذا ما شهدناه في أهل غزة الصامدين. رأيناهم يثنون على الله تعالى، وهم واثقون في موعوده، رغم ارتقاء الأحبة شهداء، ورغم القصف المكثف، ودمار البيوت والممتلكات، ورغم انعدام الأساسيات، من ماء وغذاء ووقود ودواء.. وقد أدركت شعوب العالم، أن السر في ذلك: قوة الإيمان واليقين، ما دفعهم إلى البحث عن القرآن الكريم، يستلهمون من أهل غزة، تلك القدرة على الصبر والتحمل، والثبات المذهل على الحق.
[2] ابن منظور، لسان العرب، الرابط: http://arabiclexicon.hawramani.com
[3] ابن منظور، لسان العرب، الرابط: http://arabiclexicon.hawramani.com
[4] الرعد: 11.
[5] الجاثية: 32.
[6] عبد السلام ياسين، شريط “اليقين”، الرابط: https://youtu.be/jnPJ-OU0ntM
[7] التوبة: 45.
[8] النمل: 66.
[9] الراغب، المفردات، الرابط: http://arabiclexicon.hawramani.com
[10] النمل: 14.
[11] صحَّحه ابن حجر في “تغليق التعليق”، الرابط: https://shamela.ws/book/347/18
[12] التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، الرابط: http://arabiclexicon.hawramani.com
[13] الأحمد نكري، دستور العلماء، الرابط: http://arabiclexicon.hawramani.com
[14] المناوي، التوقيف، الرابط: http://arabiclexicon.hawramani.com
[15] ابن عطاء الله، الحكم العطائية، الحكمة 136.
[16] عبد السلام ياسين، العدل.
[17] البقرة: 260.
[18] تفسير السعدي، الموقع: http://www.quran7m.com
[19] ابن أبي الدنيا، اليقين، الرابط: https://shamela.ws/book/8220/29
[20] ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، الرابط: https://islamweb.net/ar/library/content/52/13
[21] صحَّحه ابن حجر في “تغليق التعليق”، الرابط: https://shamela.ws/book/347/18
[22] أخرجه البخاري، عن أبي هريرة.
[23] السجدة: 24.
[24] السجدة: 24.
[25] عبد السلام ياسين، المنهاج.
[26] أشرنا إلى هذا المعنى عند الأستاذ ياسين، في فقرة سابقة، حين عرّف اليقين بما يلي: (اليقين ثبات، ونقيضه اضطراب مستمر).
[27] لقمان: 2-4.
[28] تفسير سيد قطب، الموقع: https://quran-tafsir.net
[29] أخرجه ابن ماجة، عن عبد الله بن جندب.
[30] تفسير سيد قطب، الموقع: https://quran-tafsir.net