مداخلة للأستاذة حنان البوحسيني عن شبيبة العدل والإحسان في ندوة عن بعد ناقشت موضوع: “العنف في المجتمع المغربي: مقاربة مجتمعية وقانونية” نظمها القطاع النسائي للجماعة بمناسبة اليوم الدولي للقضاء على العنف ضد المرأة، يوم الأربعاء 27 نونبر 2024.
إن إبراز موضوع العنف ضد الشابة المغربية يحمل أبعادا ثلاثة، فهو يؤشر على:
– سعي حثيث من أجل تحقيق وضعية مجتمعية منصفة للشابة المغربية تفرض حمايتها من الاستغلال البشع سواء في الفضاءات العامة أو الخاصة، وإنصافها من جميع التصورات التي تصر على تحقيرها وتهميش أدوارها داخل الأسرة والمجتمع، من خلال بناء قيم مجتمعية جديدة تشكل قوة دافعة لتعزيز مكانة الشابة التي هي جزء من المخزون الديمغرافي الأهم في بلادنا إلى جانب الشاب؛ بحيث يمثل الشباب 34 بالمائة من السكان، مؤشر رسمي استراتيجي تمثل فيه الشابة حاضرا حيويا ومستقبلا واعدا للمجتمع إن أتيحت لها الفرصة للمساهمة في كافة مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهذا لن يتحقق إلا من خلال تعزيز مكانة الإنسان وتسليحه بعناصر القوة الأخلاقية والقيمية والمعرفية والسياسية والاقتصادية الضرورية لتحقيق هذا التحول.
– وجود اختلالات؛ بحيث تم تسجيل ارتفاع لافت ومقلق لنسب العنف ضد الشابات بمختلف تجلياته وأساليبه، حيث طفت على السطح أرقام وأحداث فضحت العنف الممارس سواء في الفضاءات الخاصة، أو في الفضاءات العامة وأماكن الدراسة والعمل، وفي الفضاء الافتراضي أيضا، وهو ما يجهز على حق الشابات في فضاءات آمنة تحفظ كرامتهن، ولا يخضعن فيها لأي نوع من أنواع الاضطهاد أو الابتزاز كيفما كان نوعه أو مصدره.
– الإيمان بأن فتاة اليوم هي امرأة الغد، فإن تعرضت هذه الفتاة في رحلة بناء شخصيتها للعنف، ينتج ذلك عنفا نفسيا يكون هو الحاسم في بناء شخصيتها في المستقبل. صحيح أن الواقع مر، لكن لا يمنع من وضع أيدينا على مكامن الخلل ومحاولة بناء وعي حقيقي، واحتضان الطفولة وتربيتها على النهج النبوي في كل ما يتعلق بمسار حياتها، وتكوين شخصية امرأة المستقبل على السعي والكد وتحمل المسؤولية، في نضج تام وفق ما خلقها الله لها وكلفها به، ورفض كل أشكال التصغير والتمييز والتحقير والعنف في حقها.
وإذا كنا نريد الإجابة عن سؤال العنف ضد الشابة المغربية، فعلينا أن نستحضر البعد المفاهيمي والبعد التشخيصي الرصدي.
المفهوم التعريفي حسب هيئة الأمم المتحدة في المادة الأولى من الإعلان العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة (1993م) أنه “أي فعل عنيف تدفع إليه عصبية الجنس، ويترتب عليه أو يرجح أن يترتب عليه أذى، أو معاناة للمرأة، سواء من الناحية الجسمانية، أو الجنسية، أو النفسية، بما في ذلك التهديد بأفعال من هذا القبيل، أو القسر، أو الحرمان التعسفي من الحرية، سواء أحدث ذلك في الحياة العامة أو الخاصة.”
إن هذا التعريف، على أهميته، يحصر الدافع إلى الفعل العنيف في عصبية الجنس، في إشارة واضحة إلى العلاقة غير المتكافئة بين الجنسين، بيد أن العنف ضد المرأة قد يصدر من المرأة نفسها أو من جهات وأطراف أخرى في ما يمكن أن يسمى بالعنف المركب.
وبالنظر إلى آثار العنف وانعكاساته على كيان المرأة وخاصة الشابة ووجدانها وعطائها ورسالتها في صناعة الإنسان وبناء المجتمع، فإن العنف ضدها يمكن تحديده بشكل أدق في كونه“ :كل فعل أو سلوك متعمد أو غير متعمد موجه إلى الشابة باعتبار جنسها أو باعتبارها مستضعفة، ويتسم بالقوة والحقد والعدوانية والكراهية مما يسبب لها أضرارا مادية أو معنوية تكون لها آثار سلبية على وجودها وقيمتها ورسالتها ووظائفها داخل المجتمع. وقد يصدر هذا العنف من قبل أفراد أو جماعات أو دول، وقد يكون منظما أو غير منظم.” ومن هنا يتضح أن أيادي العنف الموجهة إلى الشابة متعددة ومتشابكة يتداخل فيها الفرد: الشابة ذاتها، وهنا إشارة مهمة إلى استحضار بعد الذات مع قضية العنف، ثم الرجل بمختلف صفاته، والمجتمع بمختلف تركيباته ومحدداته، والدولة بمختلف أجهزتها ومؤسساتها.
فينبغي التمييز إذا بين ثلاثة أنواع من العنف:
1- العنف المباشر: وهو كل عنف جسدي و/أو نفسي يمارسه الأشخاص على بعضهم البعض أو على أنفسهم (السلوكات المتهورة، وتعاطي المخدرات..).
ذكريات الطفولة مؤسسات للشخصية كما قال الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله في تنوير المومنات.
2- العنف البنيوي أو غير المباشر: وينتج عن هيكلة المجتمعات ويظهر من خلال اللامساواة الاجتماعية وعدم تكافؤ الفرص والولوج للمدرسة والعمل والرعاية الصحية.
3- العنف المجتمعي الثقافي: يسعى إلى إضفاء الشرعية على الشكلين السابقين للعنف عن طريق تبريرهما في بعض الحالات، ونشير على سبيل المثال إلى إقصاء الشابات من بعض الأنشطة في المجتمع..
كما يمكن أن نقسم العنف إلى:
العنف البنيوي (عنف الدولة)
يجب الإشارة بداية إلى أن الإسلام كرم الإنسان ذكرا وأنثى وفق قيم المساواة في الحقوق والواجبات والتكامل في الأدوار والوظائف، لتسعد البشرية بعبادة ربها وتعمر الأرض بما تقتضيه مهمة الاستخلاف التي أوكلها الله إليها. فانتقلت الفتاة من حال الوأد والظلم والقسوة والاستغلال البشع، لترفأ في معاني الرفق والرحمة والتكريم. إلا أن الانحرافات السياسية التي عرفتها الأمة الإسلامية بعد زمن النبوة والخلافة الراشدة انعكست على أحوال المسلمين بشكل عام وعلى أحوال النساء والفتيات بشكل خاص، فتدهور وضع المرأة والشابة بانحطاط المجتمع، بعد أن كانت “حاضرة أقوى حضور، تمارس السياسة في أكمل مظاهرها، إذ كانت تناهض الوضع القائم، بل كانت مؤسسة لمشروع قلب العالم. كانت روحا من روح التعبئة، وطاقة من طاقات الجهاد”.
هذا التدهور من أبرز مؤشراته مؤشر العنف؛ عنف روحي استهدف إيمانها وعلاقتها بربها، عنف جسدي وجنسي مسخ كرامتها وانتهك عرضها، عنف فكري عطل فكرها وقدرتها على التعلم والإبداع، والأمر من هذا وذاك عنف نفسي غيب وجدانها وقيد إرادتها وشل قدرتها على البناء والعطاء، وطبعها ببصمة السفاهة والتفاهة والدونية.
إلى حدود 2024 لا زلنا نتكلم على مؤشرات يجب أن نضعها في سياق سياسي وحقوقي واقتصادي، ترصد الواقع الشبابي المغربي المأساوي بأرقام صادمة ومعطيات رسمية مقلقة، تؤشر على عنف الدولة تجاه الشباب والشابة باعتبارها جزء مهم ينتمي لهذا الجسم، مخططات تدمير مقومات الشباب وضرب هويتهم وإفساد أخلاقهم وجعلهم كما مهملا ورصيدا معطلا، مهمشا، مجهلا، مفقرا، تائها في متاهات الإدمان والانحراف أو هاربا نحو “جنة موعودة” لا يعبر إليها إلا عبر قوارب الموت التي تحصد أرواح العشرات من خيرة شباب وشابات الوطن، وسط سياسة ممنهجة من التيئيس وإفقاد الثقة واللامبالاة لدى الشباب المغربي، وقتل كل محاولات الصمود والإقدام لديه لدفعه إلى الاستقالة من كل المهام المنوطة به وجعله رافضا لكل أشكال الشأن العام، كل هذه المآسي يقابلها واقع سياسي يزين ألعوبة الاستبداد والفساد ويصادر أحلام الشباب وطموحاته وتطلعاته في مستقبل أفضل بالمغرب.
فقد أظهرت المعطيات التي أعلنت عنها المندوبية السامية للتخطيط أن الشباب لا يشعرون باندماجهم في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية ولا في البنية السياسية على حد سواء. كما يزيد الإقصاء الاجتماعي من مخاطر الإخفاق والعنف لدى فئة الشباب.
على المستوى التعليمي
يشكل هذا الوسط أكثر الأمكنة التي يرتكب فيها العنف بعد الفضاء الأسري. وبالرجوع لآخر بحث وطني أنجزته المندوبية السامية حول انتشار العنف ضد النساء؛ فإن %22 من التلميذات والطالبات كن عرضة للعنف، وتطغى أفعال العنف النفسي والجنسي على شكل العنف المقترف في حق التلميذات والطالبات، وتجمع ما بين التحرش الجنسي والاغتصاب والمعاملة الحاطة بالكرامة والتهديد والترهيب. وتعاني التلميذات بالقرى على نحو أكثر من العنف الجنسي، ويؤثر العنف بشكل خاص في أوساط الدراسة على البالغات من العمر ما بين 15 و19 سنة، مما قد يسبب انقطاع المتمدرسات أو الطالبات عن استكمال مسارهن التعليمي، خاصة وأن المجتمع يحمل الضحية المسؤولية أكثر مما يجرم الجاني.
على المستوى الاقتصادي
الشابات العاملات اللواتي يكدحن في المعامل والضيعات الفلاحية ومحطات التلفيف… وآلاف الشابات العاطلات عن العمل وأجيرات القطاع العام الذي يتفكك تحت ضربات سياسات الخوصصة.. تمثل هؤلاء الشابات قسما هاما من الطبقة العاملة الذي يعاني اضطهادا واستغلالا مركبا في بنية سياسية قائمة على مراكمة الأرباح.. في المقابل، وفي الوقت الذي تنتظر فيه الشابة في المغرب الحماية والإنصاف، والضرب على يد كل من تسول له نفسه العبث بأمنها وسلامتها، تزيد أجهزة الدولة، التي يفترض فيها حماية هذه الفئة الهشة في المجتمع، أوضاع الشابات تعقيدا، فتستهدفهن بتلاوين أخرى للعنف؛ قمع داخل أسوار الجامعة، وهناك حديث عن حالات لمساومات جنسية؛ بداية بالتحرش، مرورا بـ”الرشوة الجنسية”، وصولا إلى ما بات يُعرف بقضية “الجنس مقابل النقط”. وسحل في الشارع، وتضييق واعتقال، وتكميم للأفواه، هذه المشاهد شهدناها جميعا أثناء الاحتجاجات الفئوية السلمية للأساتذة وطلبة الطب، بل حتى في المحطات الثقافية الطلابية..
عنف المجتمع
في البداية نطرح بعض الأرقام فيما يخص التقرير الرصدي والأرقام المتعلقة بحالات العنف المصرح بها من طرف النساء لدى شبكة الرابطة إنجاد، وشبكة نساء متضامنات.
تعرضت 4535 امرأة إلى العنف في الفترة بين 2023 ويونيو 2024.
وكشف التقرير السنوي للعنف الخاص بشبكة نساء متضامنات، وشبكة الرابطة إنجاد ضد عنف النوع الذي تم تقديمه الخميس 21 نونبر 2024 بالرباط، خلال الندوة المنظمة من طرف شبكة الرابطة إنجاد ضد عنف النوع، بشراكة مع فدرالية رابطة حقوق النساء عن أرقام صادمة، حيث أظهرت الإحصائيات أن الفئة الأصغر من 18 سنة تمثل 6 في المائة، وهي ثاني نسبة بين الضحايا، في حين تمثل الفئة بين 18 و38 سنة نسبة 33 في المائة، محتلة بذلك المركز الأول.
وعزا التقرير ذلك إلى إمكانية ارتباط هذه الفئة غالبا بأدوار اجتماعية واقتصادية مركزية في الأسرة والعمل، وقد تتعرض النساء في هذه المرحلة العمرية لأشكال عنف نتيجة عدم التوازن بين الأدوار المهنية والأسرية، أو لأسباب اقتصادية مثل الفقر أو البطالة، كما يمكن حسب المصدر ذاته أن تعاني الفئة العمرية بين 39 و48 سنة، والتي تمثل حوالي 22 في المائة من ضغط بسبب تراكم الأدوار والمسؤوليات الأسرية والمهنية، مشيرة إلى أن العنف قد يكون تجاه هذه الفئة انعكاسا للتوترات المتزايدة في الحياة الاجتماعية والأسرية.
يمكن أن نخلص إلى أن العنف يترعرع ويشتد عوده في بيئة الظلم والاستبداد، المجتمعات التي تكون فيها سياسات فاسدة أكيد أنه يؤثر على جميع المجالات وينتقل إلى المجال الاقتصادي والمجال الاجتماعي، وتؤدي ثمنه المرأة، وهذا ما يدفع للعديد من الممارسات التي تكون داخل المجتمع، فاعتماد -مثلا- المقاربة الأمنية المؤسسة على القمع والتهديد والضرب والتعنيف والالتفاف على المطالب والحقوق المشروعة، لا شك ينتج عنفا مجتمعيا، وهكذا تصبح كل مؤسسة بشرية داخل المجتمع صورة مصغرة لعنف الدولة، فلا يكون بعد ذلك داع للاستغراب إن تعرضت الشابة للتحرش والاغتصاب، أو امتدت إليها يد المتعلم بالإهانة والتعنيف.
ولعل من أشد صور عنف المجتمع على الشابة ذاك المرتبط بالموروث الثقافي والتقاليد الجائرة، فالشابة عاشت لعقود طويلة -وما تزال- في أحضان ثقافة سائدة تفرق بين الرجل والمرأة، في حين أن المرأة كالرجل مخاطبة في إنسانيتها وعقلها وروحها ومطالبة بالقيام برسالتها في الحياة.
عنف الأسرة
اللطف بالفتاة مخالف للعنف، وأشد أنواع العنف أثرا على الفتاة عنف الأسرة، المستمد مشروعيته اليوم من التربية الفاسدة، والأعراف والتقاليد البالية.
إلى النموذج النبوي السامي تشرئب اليوم أعناق الشابات الضائعات في المجتمع، المقهورات وسط الأسر المهتزة دعائمها من الداخل، إذ في غياب التربية الصحيحة، تربع العنف والتسلط منهجا وسلوكا، لتتحول الأسر من محاضن للسكينة والطمأنينة والسعادة إلى حلبات للمصارعة، يتلذذ فيها القوي بقهر الضعيف، فكان نصيب الأنثى من هذا القهر والتعنيف النصيب الأوفر، تتشابك فيه الأيادي وتتعدد، يد الرجل بمتعدد صفاته، الأب والأخ والزوج وحتى الابن، وفي كثير من الأحيان يد المرأة نفسها، في ما يمكن أن نسميه بـ”عنف الظل” أو “العنف الراجع”.
إنه عنف أسري يتخذ ألوانا وأشكالا تتأرجح بين عنف جسدي متمثل في الضرب والحبس القسري والاعتداء الجنسي والقتل، وعنف اقتصادي متمثل في استغلال كسب المرأة ومالها، وعنف معنوي يتلبس أشرس أنواع العنف الممارس على الأنثى داخل الأسرة، والذي يشمل إهانتها، احتقارها، شتمها، إهمالها، حرمانها من حق التعبير والاختيار، وإجبارها على الخدمة أو الزواج أو ممارسة الدعارة… وتكمن خطورة هذا العنف المعنوي أو الرمزي من جهة؛ في كونه غير محسوس ولا ملموس، وليس له أثر واضح، ومن جهة ثانية؛ في مدى آثاره على الصحة النفسية للفتاة، ومن جهة ثالثة؛ في صعوبة الاعتراف به وإثباته من طرف القانون.
وفي الختام
أشير الى أن هذا الطرح يفصل في بعض من مظاهر العنف ضد الشابات وإلا فالقائمة طويلة تختلف وتتشابك عواملها ومسبباتها؛ التي تنقسم بين رئيسية وثانوية، أصلية وتبعية، لكنني سأركز على سببين اثنين أرى أنهما أصل الداء؛ الأول هو طبيعة البنية السياسية للنظام السياسي المغربي والثاني طبيعة البنية الثقافية للمجتمع المغربي.