تقرير حال القدس ما بين يناير ومارس 2009

Cover Image for تقرير حال القدس ما بين يناير ومارس 2009
نشر بتاريخ

أهداف التقرير

1. تقديم معلومة دقيقة عن حال القدس

2. محاولة استشراف المرحلة القادمة

3. تمكين أصحاب القرار والمواقع والمواقف المؤثرة من تحديد مواقفهم واتخاذ الإجراءات العملية المناسبة

محتويات التقرير ومنهجيته

أوّلاً: تطوّر المواجهة في القدس:

1. تطوّر المواجهة في المجال الدينيّ والثقافيّ

– المسار الأوّل: خلق مدينة يهوديّة مقدّسة موازية للبلدة القديمة بمقدساتها الإسلامية والمسيحية

– المسار الثاني: تحقيق وجود يهوديّ دائم ومباشر في المسجد الأقصى ومحيطه

– المسار الثالث: تفريغ الأحياء الفلسطينيّة المحيطة بالمسجد الأقصى من سكّانها

2. تطوّر المواجهة في المجال الديمغرافيّ

– المسار الأوّل: تكثيف الاستيطان

– المسار الثاني: الجدار العازل

– المسار الثالث: تهجير السكّان الفلسطينيّين

ثانياً: واقع المؤسّسات العاملة في القدس:

‌أ. الاتحاد الأوروبي وكندا

‌ب. الولايات المتحدّة الأمريكيّة

‌ج. بلديّة الاحتلال في القدس

‌د. الجهات العربيّة والإسلاميّة

– بنك التنمية الإسلاميّ

– وكالة بيت مال القدس

– تركيّا

أوّلاً: تطوّر المواجهة في القدس

1. تطوّر المواجهة في المجال الدينيّ والثقافيّ:

يسعى المحتلّ اليوم أكثر من أيّ وقتٍ مضى لحسم هويّة مدينة القدس الدينيّة والثقافيّة، كـ”عاصمةٍ مقدّسةٍ للشعب اليهوديّ”، وذلك كجزءٍ من مشروعه لفرض حدود دولته النهائيّة وتثبيتها من طرفٍ واحد، والذي بدأه رئيس وزراء الاحتلال السابق أريئيل شارون مع بداية هذا القرن، ولعلّ حسم مصير القدس هو الفكرة الوحيدة التي بقيت من ذلك المشروع، بعد حربي لبنان وغزّة.

وتحويل مدينة القدس إلى “عاصمةٍ يهوديّة” يعني بطبيعة الحال تهويد قلبها المتمثّل بالمسجد الأقصى والبلدة القديمة، واستبدال معالمه ومقدساته الإسلاميّة والمسيحيّة، بمعالم ومقدّساتٍ يهوديّة، والمحتلّ يعمل على تحقيق ذلك اليوم من خلال مسارات عملٍ 4 هي:

المسار الأوّل: خلق مدينة يهوديّة مقدّسة موازية للبلدة القديمة بمقدساتها الإسلامية والمسيحية، ومشتركةٍ معها في المركز ذاته:

وتمتدّ هذه المدينة أسفل المسجد الأقصى وفي ضاحية سلوان وأجزاءٍ من الحيّ الإسلاميّ وحارة الشرف “الحيّ اليهوديّ” في البلدة القديمة، وترتبط بمجموعةٍ من الحدائق والمنتزهات والمتاحف والمواقع الأثريّة المقامة فوق الأرض في محيط البلدة القديمة، وخصوصاً في جنوبها حيث ضاحية سلوان وفي شرقها حيث جبل الزيتون وضاحية الطور، وتُطلق دولة الاحتلال على مشروع إنشاء المدينة اليهوديّة هذه اسم “مشروع تأهيل الحوض المقدّس” (الخريطة رقم 3)، ويعمل في هذا المشروع عدد كبير من الهيئات الحكوميّة والجمعيّات الاستيطانيّة أبرزها؛ سلطة الآثار، وجمعيّة “الحفاظ على تراث الحائط الغربي”، ومؤسسة “مدينة داوود”، وجمعيّة “أمناء الهيكل”، وجمعيّة “العاد”، وجمعيّة “عطيرت كوهينيم”، وشركة “تطوير الحيّ اليهوديّ”. وقد قطع المحتلّ شوطاً كبيراً في إنشاء هذه المدينة حتى الآن فقد افتتح بالفعل 11 موقعاً أمام الزوّار ولا زالت عمليّات البناء والحفر مستمرّة في أكثر من 11 موقعاً آخر (الخريطة رقم 5). وخلال الشهور الثلاثة الماضية كان العمل في هذه المدينة يسير بوتيرةٍ سريعة، ففي 1 شباط / فبراير كشف انهيار صفٍّ مدرسيّ في مدرسة القدس الأساسيّة عن وصول الحفريّات إلى شمال ضاحية سلوان على بعد 100 متر فقط من السور الجنوبيّ للمسجد الأقصى، وفي 5 شباط / فبراير كشفت مؤسسة الأقصى للوقف والتراث عن حفر نفقٍ جديد محاذٍ لمسجد عين سلوان من الجهة الغربيّة يسير أسفل الطريق الذي يصل سلوان بباب المغاربة. إضافةً إلى ذلك فإنّ عدداً كبيراً من سكّان حيّ وادي الحلوة (وهو أقرب أحياء سلوان للمسجد الأقصى) تحدثوا عن سماعهم لأصوات حفريّات أسفل منازلهم طوال الليل والنهار وفي أكثر من منطقة من الحيّ. وفي بداية شهر آذار أعلنت شركة “تطوير الحيّ اليهوديّ” عن البدء ببناء سيرٍ متحرّك تحت الأرض يصل حارة الشرف “الحيّ اليهوديّ” بساحة البراق بهدف “المساعدة في تخفيف الازدحام في الطرقات الضيّقة، للحيّ وتمكين المجموعات الكبيرة من الوصول للساحة بسهولة أكبر” وذلك بحسب أقوال الشركة.

بعدها بأيّام كشفت وسائل الإعلام في دولة الاحتلال عن إقرار الحكومة لمخطط تبلغ قيمته حوالي 145 مليون دولار (600 مليون شيكل) “لإعادة إعمار أبواب البلدة القديمة وأهمّ مواقعها الأثريّة”، وسيتضمّن هذا المشروع تغيير الطراز المعماريّ للأبواب والمواقع المستهدفة حتى يُصبح أقرب للتخيّل اليهوديّ منه إلى الطراز الإسلاميّ.

على أنّ التطوّر الأخطر في هذا الإطار كان تسليم سلطات الاحتلال إنذارات بالإخلاء لحوالي 1900 مقدسيّ يسكنون في 120 عقاراً في حيّي البستان والعباسيّة جنوب ضاحية سلوان، وذلك تمهيداً لهدم منازلهم وتحويل أحيائهم إلى “حديقة الملك الداوود” التي تُشكلّ أحد أجزاء المدينة اليهوديّة المقدسة كما يتخيّلها الاحتلال. (الخريطة رقم 2،1)المسار الثاني: تحقيق وجود يهوديّ دائم ومباشر في المسجد الأقصى ومحيطه:

وذلك من خلال الاقتحامات المتكرّرة لمجموعات المتطرّفين والتي تهدف إلى “تثبيت حقّ اليهود بالصلاة في جبل الهيكل”، وإلى نزع صفة “الحصريّة الإسلاميّة” عن المسجد وتحويله إلى منطقة مفتوحة أمام اليهود والسيّاح، وبذلك يكون المسجد وإن بقيت أبنيته قائمةً أشبه بالمتحف منه بالمسجد الإسلاميّ، وأيضاً من خلال الكنس المقامة على أسوار المسجد (ككنيس المدرسة التنكزيّة)، وأسفل منه (كقنطرة ويلسون)، وفي محيطه (ككنيسيّ خيمة إسحاق وكنيس هوفير)، والتي تُسهّل عمليّات اقتحام المسجد وتوّفر غطاءً لأعمال الحفريّات، وتضفي أيضاً الطابع اليهوديّ على البلدة القديمة، خصوصاُ وأنّ اثنين من هذه الكنس سيكونان من أكبر الأبنية الموجودة في البلدة وسيغطّيان مشهد المسجد القبليّ وقبّة الصخرة من الجهة الغربيّة.

وقد شهد هذا المسار نشاطاً ملحوظاً خلال الشهور الثلاثة الماضية ففي 9 شباط / فبراير افتتحت جمعيّة “عطيرت كوهينيم” الاستيطانيّة كنيس “خيمة إسحاق” الذي يقع على بعد 50 متراً غرب باب السلسلة، وصادر أعضاؤها أرضاً مقابلةً للكنيس تبلغ مساحتها 70 متراً وذلك بحماية ومساعدة شرطة الاحتلال. وفي 13 شباط / فبراير أعلنت جمعيّة “أمناء الهيكل” عن عزمها تثبيت كاميرا للفيديو على أحد أبنية “الحيّ اليهوديّ” لنقل صلاة اليهود في المسجد الأقصى بشكلٍ مباشر عبر الإنترنت وذلك “لتشجيع اليهود المتردّدين على القدوم للصلاة”.

وفي 20 شباط / فبراير أوقف حرّاس المسجد الأقصى مستوطناً يهوديّاً مسلّحاً كان يُحاول دخول المسجد الأقصى بسلاحه، كما أفشل حرّاس المسجد والمصلّون المرابطون فيه 3 محاولاتٍ للمتطرّفين لأداء طقوسٍ توراتيّة في المسجد الأقصى وذلك في 11 و 26 شباط/فبراير و9 آذار/مارس.

وفي 10 آذار / مارس بدأت سلطات الاحتلال الإعداد لافتتاح مركزٍ للشرطة تبلغ مساحته 140 متراً في أحد الأبنية الملاصقة للمسجد الأقصى من الجهة الغربيّة قرب حائط البراق، وذلك لتأمين وحماية السيّاح والمستوطنين اليهود الذين يدخلون للمسجد الأقصى يوميّاً.

المسار الثالث: تفريغ الأحياء الفلسطينيّة المحيطة بالمسجد الأقصى من سكّانها، والحدّ من قدرة الفلسطينيّين على الوصول إلى المسجد الأقصى والبلدة القديمة:

ويسعى الاحتلال إلى تحقيق ذلك من خلال منع البناء في الأحياء المحيطة بالبلدة القديمة، وهدم المباني القائمة فيها بحجّة أنّها مقامة دون ترخيص على أراض عامّة، وأيضاً من خلال تشديد الإجراءات الأمنيّة في البلدة القديمة ومحيطها حتى على المصلّين الآتين من الأراضي المحتلّة عام 1948.

وقد شهدت الشهور الثلاثة التي يُغطيها التقرير أكبر مخطط للتهجير الجماعيّ منذ احتلال القدس عام 1967، وسنتحدّث عنه بالتفصيل تحت بند تطوّر المواجهة في المجال الديمغرافي، كما شهدت الفتر السابقة والتي تزامنت مع الحرب على غزّة، إجراءاتٍ أمنيّة غير مسبوقة قلّصت عدد المصلّين في المسجد الأقصى خلال أيّام الجمع إلى ما لا يزيد على 3000 مصلٍّ فقط، حيث كان الاحتلال يفرض طوقاً أمنيّاً على البلدة القديمة ويحيطه بطوقٍ أمنيّ أوسع في محيطها ويمنع كلّ من هو دون الـ50 من الدخول للصلاة في المسجد الأقصى، كما كان يمنع حتى سكّان البلدة القديمة الذين تقلّ أعمارهم عن الـ50 من دخول المسجد، وهي إجراءاتٌ لم يتخذها المحتلّ مسبقاً حتى خلال انتفاضة الأقصى.

المسار الرابع: الترويج لمدينة القدس كمدينة يهوديّة:

وذلك من خلال تنظيم الجولات السياحيّة في المدينة وفق مسارٍ يتجاهل المقدّسات الإسلاميّة، ويُحاول الربط بين الآثار والمقدّسات المسيحيّة والمدينة اليهوديّة التاريخيّة، ويصوّر الوجود الإسلاميّ في المدينة كوجودٍ طارئ ومنفصل عن الوجود المسيحيّ واليهوديّ. وأيضاً من خلال إقامة مهرجانات واحتفالاتٍ بمالناسبات والأعياد اليهوديّة الدينيّة والقوميّة على مدار العام.

وقد أعلن روبن فينسكي مدير قسم تطوير البلدة القديمة في بلدية الاحتلال في القدس في 7 آذار/مارس عن سعي البلديّة لـ”إقامة المهرجانات طوال أيام السنة من أجل وصول السياح، في أوقات مختلفة لا تقتصر على مواسم مفضلة، تمتد خلال شهري تموز وآب والأعياد، وتتضمن المخططات في السنوات القادمة استثمارات بثمانية ملايين شيكل (1,932,000$)، للترويج للمدينة سياحيّاً على مدار العام”.

2. تطوّر المواجهة في المجال الديمغرافيّ:

سيطر الهاجس الديمغرافيّ على المحتلّ منذ استيلائه على كامل القدس عام 1967، وهو يُحاول منذ ذلك الحين تحقيق أغلبيّة ديمغرافيّةٍ يهوديّة مريحة في المدينة بوصفها عاصمة الدولة، وقد سنّ في سبيل ذلك عام 1973 قانوناً يُحدّد نسبة الفلسطينيّين في المدينة بـ22%، إلا أنّه لم يتمكّن من تحقيق هذه النسبة أبداً، فاليوم تبلغ نسبة الفلسطينيّين في المدينة 34% ومن المتوقّع أن تصل إلى 40% عام 2020 إلى ذلك بحسب تقديرات المحتلّ نفسه، لذا فإنّ عامل تعديل التوازن الديمغرافيّ يحتل رأس سلّم أولويّات الاحتلال في المدينة، ويُحرّك معظم مخطّطات البلديّة وبخاصّة المخطط الهيكليّ للقدس عام 2020.

ويعمل المحتلّ اليوم على تعديل التوزان الديمغرافيّ من خلال مساراتٍ 3، هي:

المسار الأوّل: تكثيف الاستيطان:

يتركز جهد المحتلّ الاستيطانيّ حاليّاً على المستوطنات الموجودة في مشروع E1 شرق مدينة القدس، ومستوطنتي جبل أبو غنيم (هار حوما) وجيلو جنوب غرب مدينة القدس، والبؤر الاستيطانيّة في البلدة القديمة ومحيطها.

وفيما يتعلّق بمشروع E1 فقد أعلنت سلطات الاحتلال في 1 شباط / فبراير عن الانتهاء من تجهيز البنى التحتيّة للمشروع بالكامل. ما يعني أنّها ستبدأ مرحلة بناء وتجهيز الوحدات السكنيّة خصوصاً في الجهة الغربيّة من المشروع، وذلك لتحقيق تواصلٌ سكّانيّ بينه وبين الجزء الغربيّ من القدس، وما يُعزّز هذه النظريّة بدء الاحتلال بتهجير سكّان حيّ الشيخ جرّاح الذي يفصل مستوطنات غربيّ القدس عن مستوطنات شرقيّ القدس، وإذا ما تحقّق هذا التواصل بشكلٍ فعليّ فإنّ المسجد الأقصى والبلدة القديمة سيصبحان معزولين عن الأحياء الفلسطينيّة في في شمال القدس بشكلٍ كامل. بقي أن نذكر في النهاية أن كتلة أدوميم كاملةً والتي تبلغ مساحتها 61 كلم2 وتضمّ أكثر من 7 مستوطنات، بينها معاليه أدوميم أكبر مستوطنات الاحتلال على الإطلاق، تُعاني من ضعف الإقبال عليها بسبب بعدها عن مركز مدينة القدس التجاريّ وعن بقيّة مدن دولة الاحتلال، وهي مشكلةٌ يسعى الاحتلال لحلّها من خلال إجراءاتٍ عدّة، أبرزها مشروع إسكان الشباب في أقصى غرب مشروع E1 على أراضي قريتي عناتا والعيسويّة والذي يحظى بدعمٍ كبير من رئيس بلديّة الاحتلال الحاليّ اليمينيّ نير بركات. (الخريطة رقم 6)

أمّا مستوطنتي جبل أبو غنيم وجيلو جنوب المدينة فإنّ الاحتلال يُكثّف بناء الوحدات السكنيّة فيهما كونهما الخيار الأكثر قبولاً لدى جمهوره، فهما متصلتان فعليّاً بغربيّ القدس والأكثر قرباً من مركز المدينة التجاريّ، وبالتالي فإنّ البناء فيهما يُعدّ الأكثر جدوى لناحية تعديل الميزان الديمغرافي. لكن الملفت هنا أنّ أحداً في أوروبا أو أميركا أو حتى في العالم العربيّ لم يعد يعترض على البناء في هاتين المستوطنتين، علماً أن قرار حكومة نتنياهو السابقة في عام 1997 بدء البناء في مستوطنة جبل أبو غنيم عُدّ بمثابة رصاصة الرحمة لاتفاقيّة أوسلو، وأدى لإثارة ردود فعلٍ واسعة وصلت إلى مجلس الأمن قبل أن تسحب الولايات المتحدة الموضوع من على طاولة البحث بتهديدها باستخدام الفيتو ضدّ أي قرار يصدر عن المجلس بهذا الشأن.

ويختلف وضع البؤر الاستيطانيّة في البلدة القديمة ومحيطها عن وضع المستوطنات عموماً، فهي تهدف في الأساس لإخلاء الأحياء الفلسطينيّة التي تنتشر فيها، أكثر مما تهدف لإسكان مستوطنين جدد، ذلك أنّ هذه البؤر لا يسكنها أعداد كبيرة من المستوطنين لكن يسكنها أكثر أنواع المستوطنين شراسةً وتطرّفاً ويكون هؤلاء محميّين بالكامل من قبل شرطة الاحتلال التي تُغطّي اعتداءاتهم في البلدة القديمة ومحيطها، وتساندهم بها من وراء حجاب. كما تُشكّل هذه البؤر الاستيطانيّة خلايا نشطة للمساعدة في أعمال الحفريّات أو بناء الكنس. وتتركّز البؤر الاستيطانيّة عموماً في ضاحية سلوان وجنوب الحيّ الإسلاميّ في البلدة القديمة وحيّ الشيخ جرّاح ويُقارب عددها الـ50. وخلال الفترة التي يُغطيّها تقريرنا كانت البؤر الاستيطانيّة في حي وادي الحلوة في سلوان الأكثر نشاطاً حيث ساهم سكّانها بشكلٍ فاعلٍ بالحفريّات الجارية هناك، وحاولوا احتلال عدد من العقارات كبناية آل الدويك، كما برزت الاعتداءات الجسديّة العنيفة التي نفّذها المستوطنون في منطة باب السلسلة ضدّ أهالي المنطقة والتي كانت تتكرّر بشكلٍ يوميّ بحماية من شرطة الاحتلال.

المسار الثاني: الجدار الفاصل:

إنّ الهدف الأوّل للجدار في القدس هو ضمّ أكبر مساحةٍ ممكنة من الأرض إلى الحدود البلديّة للمدينة مع طرد أكبر عددٍ ممكن من المقدسيين منها، ولا يسعنا إلا أن نقول أنّ الجدار كان حتى الآن أنجع الوسائل “لتعديل الميزان الديمغرافيّ بالمدينة”، رغم أنّ المقدسيّين حاولوا مواجهته من خلال الانتقال بأعدادٍ كبيرة إلى الأحياء الموجودة داخله. إلا أنّ الجدار ومع اكتمال بناء حوالي 90% منه، تمكّن من عزل أكثر من 154,000 مقدسيّ عن مدينتهم، مع مصادرة أكثر من 163 كلم2 من الأراضي الفلسطينيّة وضمّها إلى حدود القدس البلديّة، علماً أن مساحة الحدود البلديّة لم تكن تتجاوز قبل بناء الجدار 123 كلم2 بشقيها الشرقي والغربي. لتتحوّل مدينة القدس بحسب الحدود البلديّة الجديدة التي فرضها المحتلّ إلى مدينة أخطبوطيّة تمتدّ من جنوب بيت لحم وحتى جنوب رام الله شمالاً، وتمتدّ إلى الشرق حتى تتصل بالمستوطنات في غور الأردن (الخريطة رقم 4).وخلال الفترة التي يُغطيها التقرير في 3 شباط / فبراير أغلق الاحتلال بوابة ضاحية البريد التي كانت تربط بلدة الرام بالقدس عازلاً بذلك حوالي 60,000 مقدسيّ بشكلٍ تامٍّ عن المدينة، الأمر الذي سيؤدي إلى حدوث حركة نزوحٍ واسعة من البلدة باتجاه مدينة القدس، وبالتالي حدوث أزمةٍ في السكن والعمل لهؤلاء، تزيد من صعوبة أزمة السكن التي تُعاني منها القدس حاليّاً.

المسار الثالث: تهجير السكّان الفلسطينيّين:

رغم أنّ هذه السياسة هي الأكثر قسوةً على السكّان الفلسطينيّين والأكثر إضراراً بهم، إلاّ أنّها أثبتت فشلها في تعديل الميزان الديمغرافيّ للمدينة لصالح الاحتلال، لكنّ المحتلّ يُتابع العمل بها من باب التضييق على المقدسيّين وتصعيب ظروف حياتهم في المدينة. ولأنّ نتائج هذه الطريقة محدودة في معادلة التوازن الديمغرافيّ ولأن تنفيذها أيضاً صعب ويُثير مشاكل سياسيّة، فإنّ المحتلّ لا يلجأ إليها على نطاقٍ واسع إلاّ نادراً.

لكن في الآونة الأخير زاد المحتلّ من وتيرة عمليّات التهجير واسعة النطاق؛ وكان أبرزها تسليم حوالي 1900 مقدسيّاً يسكنون 120 عقاراً في حيّي البستان والعباسيّة في ضاحية سلوان جنوب المسجد الأقصى أوامر لإخلاء منازلهم، وهي عمليّة التهجير الأكبر التي ينوي المحتلّ تنفيذها في القدس منذ هدم حيّ المغاربة عام 1967. والهدف من هذه العمليّة ليس فقط تهجير السكّان المقدسيّين من مدينتهم، وإنّما استكمال تهويد قلب المدينة دينيّاً وثقافيّاً، من خلال بناء جزءٍ هامٍّ من المدينة اليهوديّة التاريخيّة وهو “حدائق الملك داوود”، ومن خلال تفريغه من السكّان الفلسطينيّين. ونعتقد أنّ إقدام الاحتلال على تسليم هذه الإخطارات الجماعيّة جاء في جزءٍ منه لإثبات قدرة وحيويّة المشروع الصهيونيّ بعد نكساته المتلاحقة في لبنان وغزّة. (الخريطة رقم 1،2).

تهجير السكّان في حيّ الشيخ جرّاح الذي يحتوي على 28 عقاراً يأتي أيضاً في إطار مماثل، حيث يسعى الاحتلال للسيطرة على الحيّ ليؤمّن تواصلاً جغرافيّاً مباشراً بين مستوطنات القدس وشمال البلدة القديمة من ناحية، ويؤمّن اتصال معاليه أدوميم أكبر مستوطنات القدس، بالجزء الغربيّ من مدينة القدس من ناحيةٍ أخرى (الخريطة رقم 6).إضافةً لعمليّات التهجير الواسعة النطاق هذه، فقد نفّذ المحتلّ أو بدء بتنفيذ عمليّات تهجير أصغر حجماً في مختلف مناطق وأحياء القدس، كعمليّة تهجير سكّان 4 عقاراتٍ في منطقة رأس خميس شمال غرب مخيّم شعفاط، وتهجيرٍ سكّان 19 منزلاً في حيّ الطور، وتهجير سكّان 7 منازل في الحيّ الإسلاميّ في البلدة القديمة قرب منطقة برج اللقلق المُلاصقة لسور البلدة القديمة من جهة باب الساهرة، وذلك بهدف السيطرة على أراضي المنطقة التي تصل مساحتها لـ16 دونماً لإقامة بؤرةٍ استيطانيّة فوقها حيث أنّ الاحتلال فشل حتى الآن في تحقيق وجودٍ له في هذه المنطقة. (الخريطة رقم 7).

ثانياً: واقع المؤسّسات العاملة في القدس

تُعد الجمعيّات والمؤسسات الأهليّة العاملة في القدس الرئة الأهمّ التي يتنفّس من خلالها أهل المدينة، والجهة الفاعلة الأبرز على الساحة الفلسطينيّة، وذلك في ظلّ انحسار أيّ دورٍ لسلطة الفلسطينيّة واعتبارها قضيّة القدس موضوعاً مؤجّلاً لمفاوضات الحلّ النهائيّ وفقاً لاتفاقيّات أوسلو، وفي ظلّ انحسار الدور الأردني أيضاً وحصره بدفع رواتب موظّفي الأوقاف وتمويل مشاريع الإعمار الصغيرة في المسجد الأقصى.

والمجتمع المقدسيّ غنيّ بالجمعيّات والمؤسسّات الأهليّة حيث يبلغ عددها حوالي 154 جمعيّةً ومؤسّسة، تُقدّم خدماتٍ لحوالي 255 ألف مقدسيّ يسكنون داخل الحدود البلديّة، أي أن هناك جمعيّة لكلّ 1,700 مواطنٍ مقدسيّ. لكن ليست كلّ هذه الجمعيّات نشطة، فبعضها نشطٌ جدّاً ويقوم بدورٍ حيويٍّ وأساسيٍّ في القدس، وبعضها تُنفّذ أجنداتٍ خارجيّة يٌمليها المموّلون، وبعضها وهميّةٌ لا هدف لها سوى الحصول على التمويل. وتنشط المؤسّسات والجمعيّات الأهليّة المقدسيّة بشكلٍ رئيس في مجالات التعليم والصحّة ومكافحة الآفات الاجتماعيّة وبدرجةٍ أقلّ في مجال الإسكان والترميم.

ولأنّ هذه الجمعيّات هي الجهة الأقدر على الفعل والتحرّك داخل المدينة، ولأنها تنشط وحيدةً تقريباً، ولأنّها تعتمد بشكلٍ كامل على المنح الخارجيّة وترتبط بها، فإنّ من يُمسك بتمويلها ومصادر دعمها يكون الأقدر على توجيه سياساتها، وبالتالي توجيه السياسات واتجاهات النموّ والتطوّر في الأحياء الفلسطينيّة في القدس. وهي حقيقةٌ تُدركها تقريباً جميع الأطراف الفاعلة في القدس، وإن كان العرب والمسلمون هم آخر من أدرك هذا الواقع، وبدأ يعمل وفق شروطه.

وتنقسم الجهات المموّلة للجمعيّات والمؤسّسات الأهليّة العاملة في القدس إلى 4 جهاتٍ رئيسة، هي:

‌أ. الاتحاد الأوروبي وكندا: يُعدّ الاتحاد الأوروبّي المانح الأكبر في القدس، وتنشط كلٌّ من إيطاليا وإسبانيا واليونان في هذا المجال بشكلٍ خاص حيث تحتوي قنصليّة كلّ من هذه الدول في القدس مكتباً خاصّاً لمتابعة تمويل المشروعات والاتصال بالجمعيّات والمؤسّسات المقدسيّة. ويتركّز تمويل الاتحاد الأوروبيّ على المشاريع المتعلّقة بالرعاية الاجتماعيّة كتحسين وضع المرأة ورعاية الشباب والمراهقين، ومشاريع المساعدة النفسيّة، ومشاريع التوعية السياسيّة والمدنيّة، والمشاريع الثقافيّة، ومشاريع الدعم القانونيّ.

ويرفض الاتحاد تمويل أيّ مشروع قد تنتج عنه مواجهةٌ مع الاحتلال أو صدامٌ معه، فهو مثلاً يرفض تمويل المؤسسات أو مكاتب المحاماة التي ترفع قضايا ضدّ بلديّة الاحتلال، ويُموِّلُ االمؤسسات والعيادات القانونيّة التي تُقدم خدمات قانونيّة استشاريّة فقط، كما يشترط أن تكون مقبولة لدى الاحتلال من النواحي القانونيّة وحتى السياسيّة، ويرفض تمويل المشاريع التي لا تخدم رؤيته للقدس كمدينةٍ مدوّلة متعددة الثقافات ومفتوحةٍ للجميع، أي أنّه يرفض تمويل المشاريع التي تهدف إلى الحفاظ على الهويّة العربيّة للقدس، ومن هذا المنطلق رفض الاتحاد تبنّي أيّ مشروعٍ من مشروعات احتفاليّة القدس عاصمة الثقافة العربيّة رغم أنّها تدخل في المجالات التي يُموّلها عادةً، وقد تحدّث مسؤول المنحة الإيطاليّة في القدس عن هذه السياسة صراحةً حين سأل وفداً من الفعاليّات المقدسيّة عن سبب إصرارهم على تعريب القدس قائلاً: ” لماذا تُصرّون على إلباس القدس طاقيّة عربيّة؟”.

ب. الولايات المتحدّة الأمريكيّة: تُعدّ الولايات المتحدة أحد أهم المانحين في مدينة القدس وإن كان حجم تمويلها للمشاريع أصغر من حجم التمويل الذي يُقدّمه الاتحاد الأوروبي، ويتركّز التمويل الأميركيّ على مشاريع الرعاية والمساعدة الاجتماعيّة البحتة كرعاية المكفوفين وذوي الاحتياجات الخاصّة أو مراكز صعوبات التعلّم.

ج. الجهات العربيّة والإسلاميّة: ويُعدّ وجود هذه الجهات في القدس ضعيفاً حتى اليوم، ولا تبرز في هذا المجال سوى 3 جهاتٍ رئيسة، هي:

1. بنك التنمية الإسلاميّ: ويدير هذا البنك أموال صندوق القدس الذي أقرّته قمّة بيروت العربيّة عام 2002 ويبلغ حجمه 50 مليون دولارٍٍ أميركيّ، ويُركّز البنك جلّ اهتمامه على البلدة القديمة في القدس، وقد تبنّى مشروعاً لإعادة إعمار وترميم البلدة القديمة بكاملها بكلفةٍ تقريبيّة بلغت 15 مليون دولار، وذلك بالشراكة مع مؤسّستي الرفاه والتعاون، الذين أنجزتا مسحاً هندسيّاً كاملاً للبلدة القديمة، قسّمت على أساسه البلدة إلى قطاعات، وجزّئت مشروع الإعمار إلى 5 مراحل رئيسة، واليوم وصل هذا المشروع إلى بداية المرحلة الثالثة وبلغت قيمة ما أنجز من أعمال حوالي 10 ملايين دولار أميركيّ.

2. وكالة بيت مال القدس: وتتبع هذه الوكالة للجنة القدس المنبثقة عن منظمة المؤتمر الإسلاميّ التي يرأسها الملك المغربيّ، ويبلغ حجم مشاريعها السنويّة حوالي 8 ملايين دولار أميركيّ، تتركّز في مجالات الإسكان والتعليم والصحّة ودعم المؤسسات، ومن أبرز مشاريع الوكالة صندوق الإقراض السكني الذي يبلغ حجمه حوالي 3 ملايين دولار.

3. تركيّا: تموّل تركيّا من خلال قنصليّتها في القدس عدداً من المشروعات في مختلف المجالات، وقد بدأت حديثاً تهتمّ بمشروعات الحفاظ على التراث العثمانيّ في مدينة القدس.

د. بلديّة الاحتلال في القدس: نتيجةً لغياب الدعم الخارجيّ العربيّ والإسلاميّ، وللضغط الاقتصاديّ الكبير الذي تتعرّض له القدس، استطاعت بلديّة الاحتلال أن تستدرج بعض الجمعيّات المقدسيّة إمّا عبر تمويلها مباشرةً أو عبر إعفائها من الضرائب والرسوم البلديّة، وبطبيعة الحال فإنّ الجمعيّات التي تتلقى دعماً من الاحتلال لا تُعلن عن نفسها، لكن هناك كلاماً كثيراً يدور في أوساط الجمعيّات المقدسيّة عن وجود جمعيّاتٍ كهذه خصوصاُ في المجالات الاجتماعيّة ومجال الاستشارات القانونيّة. إلاّ أنّ ظاهرة تلقّي الدعم من بلديّة الاحتلال بدأت في الآونة الأخيرة تنتشر بشكلٍ كبير بين المؤسّسات التي تُشرف على المدارس الخاصّة في القدس، رغم أنّ هذه المدارس تتقاضى أقساطاً عاليةً من طلاّبها.

وفي المرحلة الحاليّة فإنّ بلديّة الاحتلال لا تفرض على المدارس التي تتلقّى الدعم شروطاً تتعلّق بالمناهج أو المحتوى الدراسيّ أو طريقة التدريس، لكن من المتوقّع أن تلجأ لذلك في المستقبل بعد أن تُصبح هذه المدارس معتمدةً على معونتها بشكلٍ كبير.