آه، ما أقسى وقع هذه الكلمة على النفس الكسولة عن العمل والمستحلية للكلام المنمق والمعمق. كلام تعرض النفس من خلاله عضلات ذكائها أو حفظها وتعرض مفاتن تحليلها. وما أسهل على النفس عمل الكلام، إن كان الكلام عملا، بل ما أحلى نشوة الشعور بالتفوق والتعالم على الأقران وعلى السامع، وما أقسى كلام العمل على النفس وما أمرّ الصبر على مداومته وعلى عدم رؤية الناس له.
كم سمعنا لكثير من المتكلمين على القنوات ولايزال الكثير من شبابنا يسمع، لما حطبه هذا أو ذاك من معلومات المكتوبات وكم ينبهر بحفظه واستظهاره دون أن يتساءل عن ماذا يعمل هذا المتكلم! هذا الذي ابتلاه الله بذلك العقل الحافظ المراكم للمعلومات وابتلاه بلسان ينثرها يمينا ويسارا حسب ما توارد على اللسان دون منهاج قاصد ضابط ولا مشروع بناء هادف… ودون ورع حابس.
عمله هو قراءة الكتب وحفظ معلوماتها والصعود على المنبر والتوجه للمصورة لإلقائها. وبدون المنهاج الضابط يسفه أمرا تارة ويعتذر عنه أخرى ويذم شخصا في خطبة ويمدحه أخرى وهكذا، ومنهم من كذب موقفه من الاستبداد كلامه. ويا ليت هذا المتكلم منشغل بعمل تربية رجال أو بعمل دعوة أو بعمل غوث أو عمل سياسي أو اجتماعي أو عمل فكري يخدم مشروعا أو يرد على شبهة أو عمل بحث علمي هادف يطور وينمي مجاله وينفع الناس فيكون كلامه عن عمل يعمله.
بدأ الانحراف في الأمة عندما أوتي جيلٌ القرآن قبل الإيمان فنثروه نثر الدقل وتفاقم الانحراف عندما أحدثت للكلام فرق وأصبح لهذه الفرق علم وسمي هذا العلم: علم الكلام!!! واستغنت بعض هذه الفرق بعلم الكلام عن علم العمل.
ربما اجتهد علماء الكلام لعصرهم في صد هجوم العقائد الفاسدة والفلسفات الدخيلة عند توسع رقعة العالم الإسلامي، لكن ما ضرورة الخوض في ذلك الآن وقد هجم على الأمة فساد الاستكبار والعولمة واستحكم فساد الاستبداد. لنجتهد لعصرنا لصد الهجوم بكلام بان معه العمل.
لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عمن غزا أو جهز غازيا، ومن أطعم جائعا، ومن شيع جنازة، ومن تصدق بصدقة، ومن وصل رحما، ومن بنى مسجدا، ومن علم لغة أو علما نافعا، ومن أمر بمعروف أو نهى عن منكر، لا عمن جادل أو أفحم في القول أو من لحن فيه أو فاز في المراء أو قارن بين صحف موسى عليه السلام وما يتنزل من القرآن أو من يسأل عن المن والسلوى، بل كان ينهى عن ذلك.
روي عن أحد أعلام الإصلاح والنهضة رحمهم الله قوله في آخر حياة مليئة بالكتابة والفكر والمحاضرة في تقويم الفكر الإسلامي أنه تمنى لو انصرف إلى جزيرة مع عشرة نفر يربيهم على الإيمان ويعلمهم العمل الصالح لكان أفضل من كل ذلك.
علم العمل الذي علم به رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن الصحب الكرام بعد تعليمهم الإيمان… العلم غير النافع في الآخرة وفي العمل الصالح استعاذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يجب أن يكون العلم إمام العمل، ويكون العمل مسدد العلم ومغنيه.
قالها وبثها العالم المفكر العامل علمنا علم خطوة لا علم خطبة)، ونحن غدا بحاجة لدعاة فعلة، لا لخطباء ملتهبين من فوق رؤوس الشعب).
ومن دهاء الحكام المتسلطين على رقاب الأمة أن يتركوا بعض “العلماء” يتهافتون على النظريات المنقطعة عن واقع العمل ويلهوهم “بخلق القرآن” وبالكلام في العقائد والاختيار والإجبار ومن يدخل النار وبالاستواء في السماء، بدل أن يتهمموا بالإيمان وما يصدقه من عمل وبالشورى وما تثمره من عدل على الأرض.