أخرج الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل إنسان تلده أمُّه على الفطرة، وأبواه بعدُ يُهوِّدانه ويُنصرانه ويمجسانه، فإن كانا مسلمين فمسلم» (1). فالإنسان يولد على فطرة الإسلام، وأبلغ التأثير فيه يكون في دينه، إذن ما الذي يعيق ثبات هذه الفطرة خلال نموه؟ ما أثر الآباء في حفظ هذه الفطرة؟ أيمكن أن يكونوا السبب في انحرافها وهم أشد حرصا على صلاحها؟ انحراف سلوك الأبناء قدر أم نتيجة؟
خلق الله تعالى الكون بنظام محكم دقيق لا يمكن خرقه أو تغييره وإلا فسد كل شيء، والإنسان من هذا الكون، كما الأسباب والمسببات، والفاعل فيها الإنسان باختياره وإرادته، فحياة خير الورى كانت قائمة على الأخذ بالأسباب من تخطيط وتدبير وإعداد للوسائل، وما أصابه وقومه كان بأسباب، وقال للذي سأله أيعقل ناقته أم يتركها ويتوكل؟ قال: “اعقلها وتوكل” (2)، أخذ صلى الله عليه وسلم الحذر وأعد الجيوش، وبعث الطلائع والمستطلعين، ولبس المغفر على رأسه، وأقعد الحراس على فم الشعب، وهاجر بنفسه واتخذ أسباب الحيطة في هجرته تامة، واختبأ من العدو وهو المنصور بالله، وحمل الزاد والمزاد وهو سيد المتوكلين.
الأسباب سنة من سنن الله الثابتة، كما هي الفطرة السليمة حقيقة ثابتة، فما الذي يعيقها ويحرفها؟
نتمعن فنجد تربية الأبناء ترتكز في ذهن الآباء على التوجيه المتحكم، ومعيار صلاح الابن وحسن التربية طاعة الأبناء للآباء على وجه الامتثال لا التوقير، ثقافة انسلخت من أصالتها باعتبارها متخلفة جاهلة لتستند إلى قشور تربية مستوردة، ناسين أن النبع في الأولى شريف منشأه ومقصده في تربية أبناء مسؤولين مكتسبين للمهارات الحياتية، وكم يكون النتاج مشرفا باستحضار قيمنا الدينية.
ثقافة غربية غريبة أبهرت مثقفي مجتمعنا فانساقوا نحو الشكل وغفلوا عن الجوهر العلمي الإنساني الذي لا يختلف مع مقاصد شريعتنا، تربية ركزت على الحشو المعرفي والتحكم التام باعتبار السلطة الأبوية أو المدرسية على الأبناء مفتاح الصلاح والإصلاح، أذهان ترسخ فيها مفهوم السلطة كيف لها أن تنتج شخصية متوازنة بإرادة متحررة؟
قال الله تعالى: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (الغاشية، 21 – 22)، الآيات والمواقف الكثيرة تؤكد وترسخ آليات البناء الإنساني السوي؛ بدءا من حوار الله تعالى مع سيدنا آدم والملائكة، وحوار سيدنا نوح مع ابنه.. إلى آخره من الدروس السماوية، لكن الإنسان يسعى لتحقيق احتياجاته من خلال التحكم في الآخرين، كما يقول الدكتور وليام كلاسر: “الإنسان نظام تحكم” (3)، فالآباء يشبعون حاجتهم للقوة من خلال التحكم في الأبناء، قس على ذلك علاقة الزوج بزوجته، والرئيس مع المرؤوس… هي حاجات فطرية نعم، لكنها مشوهة في أذهاننا وتصورنا، ويوضح كلاسر في هذا الشأن، تحقيقا للانسجام بين الفطرة والحقيقة؛ “الشخص الوحيد الذي نتحكم فيه هو أنفسنا” (4)، نعم، هي حقيقة ثابتة وسنة من سنن الله في كونه، وبالتالي فالتحكم الخارجي لا يبني الإنسان.
إذن فما حدود علاقتنا بالآخر وبالأبناء على الخصوص؟ كيف يمكن ضبط سلوكياتهم؟…
لنا في سيدنا إبراهيم عليه السلام القدوة حين قال لابنه متودداً متلطفاً: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى (الصافات، 102)، يتشاور ويخير ويسأل ابنه مع أنه أمام أمر إلهي، لكنه يدرك جيدا حصاد تربيته وثمرتها.
علاقاتنا بأبنائنا محدودة في توفير القدوة والمحاكاة والتفاوض والتعاقد والاحترام والتقدير، وكلها معلومات فقط، لا نملك التحكم في النتائج والسلوك إلا إذا عطلنا نظام عمل الإنسان بالتحكم فيه، وهذا ما يقع غالبا فننتج أطفالا مسلوبي الإرادة وعاجزين عن اتخاد قراراتهم، أو متسلطين متمردين يعكسون النموذج التربوي الذي تلقوه في التنشئة، وكلاهما لا يخدم الإنسانية بالشكل المطلوب.
ما العمل؟
يوضح وليام كلاسر، بما لا يتناقض مع مبادئ ديننا الحنيف، بأن إشباع الحاجات الإنسانية الأساسية والفطرية بشكل متوازن من شأنه إنتاج الشخصية المتوازنة، وهذه الحاجات مصنفة حسب أنواعها كالتالي:
الحاجة إلى البقاء: الأكل، الشرب، الصحة، التكاثر…
الحاجة إلى القوة: النجاح، الإنجازات، التكليف بمسؤوليات حسب السن، حضور الأبوين في اللحظات المهمة لأبنائهم أمام الأصدقاء حسب الحاجة…
الحاجة إلى الحب والانتماء: التعبير عنه بالأفعال وإشباعها بالشكل الذي يفضلونه، فهذه الحاجة تحصّنهم من ذئاب الشارع…
الحاجة إلى المتعة: ممارسة الهوايات وأشياء نستمتع بها معا وبأشكال متنوعة…
الحاجة إلى الحرية: تقديم خيارات عوض أوامر مباشرة، التعبير عن الرأي، الاقتراح، حرية المبادرة مع التوجيه عند الضرورة القصوى، وتقديم بدائل….
هي حاجات فطرية يتم إشباعها بالصورة والطريقة التي توجد في ذهن الطفل، والتي تشكلت لديه منذ الولادة، ولا يمكن إشباعها كما يتصورها الآباء، فلكلٍّ صوره الخاصة، وقد تتوافق أحيانا، لهذا من المهم الإسهام في تكوين هذه الصور منذ الصغر بالطريقة الإيجابية وتنويعها، مثلا: الرضيع إذا جاع يبكي ليحصل على الحليب لأن هذه هي الصورة الوحيدة في ذهنه لإشباع حاجته، وإذا عددت الأم صور الإشباع يمكنه بلوغه بنوع آخر غير الحليب. هكذا في جميع الحاجات يبقى تنويع البدائل مهما في تحقيق الاستقرار النفسي، حيث إذا تعذر شيء استبدله بآخر ، وهي عادة بانية ترافق الطفل مدى الحياة.
فكل سلوك مضطرب سببه حاجة غير مشبعة، وهو مدفوع بحاجة داخلية، والمشاكل تحدث حينما نريد أن نفرض على أبنائنا أن يكونوا الشخص الذي ليسوا عليه، إنما وظيفة الوالدين التأثير الإيجابي الذي يرتكز على بناء العلاقة من خلال ما سبق ذكره، وتجنب العادات المدمرة: الصراخ، اللوم، التهديد بالعقاب وزرع الخوف وعوضه التفاوض والتعاقد، الأوامر الكيفية ،النقد، المن كنوع من التحكم من خلال الألم، الشكوى، المكافأة أو الرشوة إن صح التعبير.. بل الدافع يجب أن يكون منبعه داخليا وذاتيا، كثرة الوعظ (فرسول الله كان يتخول أصحابه بالموعظة مخافة السآمة كما أنها كانت قصيرة ومركزة غالبا)..
إنها لأمانة عظيمة أن يهب الله للوالدين خلقه ينشئونه، وحفظ الفطرة “وسيلتها التربية على الاستقامة وحفظ الأمانة التي أودعها الله عز وجل بين أيدينا من هذه المولودات التي خلقها على الفطرة، ونسب إلينا مسؤولية ما يصيب الفطرة من تشوه وانحراف من جراء إهمالنا” (5).
يقول الإمام الغزالي رحمه الله في الإحياء: «اعلم أن الطريق في رياضة الصبيان من أهم الأمور وأوكدها. والصبي أمانة عند والديْه. وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذَجَةٌ (أي سليمة صافية بريئة) خالية من كل نقش وصورة. وهو قابل لكل ما نُقِش، ومائل إِلى كل ما يُمال به إليه. فإن عُوِّد الخير وعُلِّمَهُ نشأ عليه، وسعِد في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبواه وكل معلم له ومؤدِّبٍ» (6).
ألا تتطلب هذه الأمانة من الزوجين الاستعداد التام قبل توليها؛ بتأهيل نفسيهما بدءا من تصحيح علاقتهما وتوطيدها إلى التدريب على الأساليب التربوية البانية؟
الهوامش:
(1) صحيح مسلم، الرقم 2658.
(2) رواه الترمذي، الرقم 2517.
(3) وليام كلاسر، نظرية الاختيار والعلاج الواقعي.
(4) وليام كلاسر، نفسه.
(5) الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله، تنوير المؤمنات، ج2، ص 279.
(6) الإمام الغزالي رحمه الله، كتاب إحياء علوم الدين، ج3، باب بيان الطريق في رياضة الصبيان، ص77.