تَوْجِيهَات قُرْآنِية في الأدب مَعَ خَيْرِ البَرِيَّةِ (1)

Cover Image for تَوْجِيهَات قُرْآنِية في الأدب مَعَ خَيْرِ البَرِيَّةِ (1)
نشر بتاريخ

بين يدي الخلق الكريم

“طلبنا الأدب حين فاتنا المؤدبون” هكذا تحدث ابن المبارك رحمه الله تعالى، بينما قال أبو علي: “ترك الأدب يوجب الطرد، فمن أساء الأدب على البساط رُدَّ إلى الباب، ومن أساء الأدب على الباب رد إلى سياسة الدواب”.

قال ابن القيم: الأدب هو الدين كله). ولما كان الأدب بهذا القدر من الأهمية ولا سيما مع من عظمه الله وشرفه وكرمه وبجله وأمر المومنين بتعظيمه وتوقيره وتعزيزه، جاء القرآن باعتباره خير موجه ومؤدب ومرب للمومنين مليئاً بهذا التوجيه، وكان مشرفاً في كل لحظة على تربية الصحابة والمؤمنين إلى حسن الأدب والمعاملة مع خير البرية صلى الله عليه وسلم. فقد كان الوحي يعيش مع هذا الجيل النوراني وكانوا هم يمشون في ظلال توجيهاته وحتى تلميحاته، ليرسموا بذالك خطًا منهاجيا لمن يأتي بعدهم أن يحسن اتباعهم في التلقي والتنقي والترقي لتتم لهم الحظوة وكمال الرضى والثواب.

قال تعالى: إِنَّا أرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً ونَذِيراً لتُومِنُوا باللَّهِ ورَسُولهِ وتُعَزِّرُوهُ وتُوقِّرُوهُ وتُسَبِّحُوهُ بكرَةً وأصِيلاً 1 .

وحاصل ماقيل في معاني هاته الأوصاف، أن التعزير إسم جامع لنصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه.

والتوقير: إسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم لما يصونه عن كل ما يخرجه عن حدِّ الوقار 2 .

والأدب على ثلاثة مراتب:

* أدب مع الله تعالى

* أدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعه.

* أدب مع خلقه.

تعريف الأدب

(أدب) الهمزة والدال والباء أصل واحد تتفرع مسائله وترجع إليه، فالأَدْبُ أن تجمع الناس إلى طعامك… ومن هذا القياس الأدَبُ أيضاً لأنه مُجمع على استحسانه 3 .

وجاء في تاج العروس: هو الذي يتأَّدبُ به الأديب من الناس سمِّي به لأنه يَأدِبُ الناسَ إلى المحامد وينهاهم عن المَقَابح وأصل الأدَبِ: الدعاء… الأدَبُ مَلَكَةٌ تعصم من قامت به عمَّا يَشِينه، وفي المصباح: هو تعلم رياضة النفس ومحاسن الأخلاق.

واصطلاحاً: استعمال ما يحمد قولا وفعلا.

قال ابن حجر: عبر بعضهم عنه بأنه الأخذ بمكارم الأخلاق، وقيل: الوقوف مع المستحسنات، وقيل هو تعظيم من فوقك والرفق بمن دونك.

وقال الإمام عبد السلام ياسين بأدبك مع المخلوق وشمِّك من روحه تتعلم الأدب مع الخالق سبحانه) 4 .

لما كان الأدب بهذا المقام أولاه القرآن الكريم أولوية قصوى فتراه تارة يوجه الصحابة وتارة ينهاهم عن فعل وتارة يدعوهم إلى فعل وأخرى بتغيير لفظ وحسن خطاب، أو تقويم فعل أو تركه.

لأننا عادة لا ندرك قيمة ما عندنا فيأتي الوحي ليخبرنا بقيمة ما نملك، ولما كان صلى الله عليه وسلم أعظم نعمة منينا بها امتن الله به علينا وحق له ذلك سبحانه.

مع الوحي الكريم

1- عدم التقدم بين يديه

قال تعالى: يَأيُّهَا الذينَ آمنُوا لا تُقَدِّمُوا بينَ يَديِ اللهِ ورسُوله، واتقوا اللهَ إنَّ اللهَ سميعٌ عليمٌ.

افتتح الله السورة والتوجيه لهذا الخلق بالنداء العظيم يأيها الذين آمنوا للتنبيه على أهمية ما يرد بعد ذالك النداء لتترقبه الأسماع بشوق ولهفة وطاعة وامتثال.

وفي هذا النداء أدرج الله فيه واجب الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عدم التقدم بين يديه.

وحقيقة التقدم: المشي قبل الغير، وهو هنا تمثيل بتشبيه من يفعل فعلا دون إذن من الله ورسوله بحال من يتقدم مماشيه في مشيه ويتركه خلفه.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ومن الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يتقدم بين يديه بأمر ولا نهي، ولا إذن ولا تصرف حتى يأمر هو، وينهى ويأذن… وهذا باق إلى يوم القيامة ولم ينسخ، فالتقدم بين يد سنته بعد وفاته، كالتقدم بين يديه في حياته.)… فرأس الأدب معه: كمال التسليم له، والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن يحمله معارضة خيال باطل، يسميه معقولا. أو يحمله شبهة أو شكاً، أو يقدم عليه آراء الرجال، وزبالات أذهانهم، فيوحده بالتحكيم والتسليم، والانقياد والإذعان. كما وحد المرسِل سبحانه وتعالى بالعبادة والخضوع والذل، والإنابة والتوكل) 5 .

ونستطيع أن نرى هنا في فاتحة الحجرات وخاتمة سورة الفتح من ذكر صلح الحديبية، أن رسول الله أبرم الصلح مع قريش وقبل كل شروطهم وتنازل لهم عن أشياء. فيما لم يرضى جمع من الصحابة الكرام بهذا الإجراء وعارضوا وباح بعضهم بالأمر، فكان للمومنين رأي وللرسول صلى الله عليه وسلم رأي آخر، فقد اختلفت وجهة نظرهم إذ تعصب المسلمون لأنفسهم بينما تعصب الرسول للإسلام. ولما حدثت المعارضة جاءت مطالع سورة الحجرات لتعالج هذه المسألة وتوجه الصحابة لهذا الخلق العظيم والذي هو من صميم العقيدة الصحيحة إذ أمرهم بعده بتقوى الله في هذا الأمر.

وأوحى كلامه سبحانه إن الله سميع عليم أن يكون عدم التقدم بين يديه حسا ومعنى ظاهراً وباطناً قلباً وقالباً.

لذا حرص الصحابة كل الحرص على هذا الخلق الكريم والتزموا به التزاما ليس له نظير فكانوا من شدة حرصهم لا يتجاوزونه في أي شيء حتى عندما كانوا يمشون معه.

ولكنه من أخلاقه السامية ورعاية منه لهم كان يأمرهم بالتقدم ليمشي وراءهم كأنه يسوسهم كما جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يسوق أصحابه.

أخرج أحمد في مسنده من حديث جابر بن عبد الله قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من بيته مشينا قدامه وتركنا ظهره للملائكة”.

وكان يتخلف في المسير ليزجي الضعيف ويردفه معه ويدعو لهم.

وتجدر بنا الإشارة هنا أن نبين أن محاولة الأئمة والعلماء فهم نصوص الحديث النبوي واختلافهم فيه وإبداء آراءهم العلمية فيه وترجيحاتهم وفق الضوابط الشرعية والأصولية واللغوية والعرفية هو ليس تقدم بين يديه عليه السلام، لا بل هذا من صميم الوقوف على هديه الشريف، وقد حدث هذا للصحابة وهو حي بين أظهرهم، والأمثلة في ذالك أكثر من أن تحصى، فالصحابة لم يجمدوا مع النص أو اللفظ بل اجتهدوا في فهمه وتنزيله.

التقدم أن تزيل نصاً نبوياً ثابتا صحيحاً متنا وسنداً بدعوى من الدعاوى الرائجة أو تمشياً مع فكر معين أو أنه لم يدخل إلى فهم معين أعوذ بالله من ذلك.

2- تحقيق محبته عليه الصلاة والسلام

قال تعالى: قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين 6 .

فقد وجه القرآن الكريم الصحابة الكرام إلى عظم قدر نبيه صلى الله عليه وسلم وأنه يجب أن يكون أولى من كل شيء ومقدما على كل شيء، وأن أهمَّ ما يمكن للمومن أن يصرف همه له هو الله تعالى ورسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله لسيدنا عمر الآن يا عمر خير ما يمكننا أن نستدل به هنا.

3- طاعته عليه الصلاة والسلام

قال الله تعالى يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون.

وقال سبحانه: يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله.

وقال سبحانه: وإن تطيعوه تهتدوا.

وفي هذا السياق حذر القرآن الكريم من مخالفة أمره أو عصيانه لأنه يترتب على ذلك عقوبة في الدنيا والآخرة، وانظر إلى ما حصل في أحد جراء مخالفتهم أمره. قال تعالى: فَليَحْذر الذينَ يخَالفُون عنْ أمْرِهِ أنْ تُصِيبَهُم فِتْنَةٌ أو يُصِيبَهُم عذابٌ أليمٌ 7 .

وكذالك نفى القرآن الكريم عن المومنين صفة المخالفة وعدم النزول لأمره وقضائه.

قال تعالى: وَمَا كَانَ لمُومن ولا مُومنة إذا قَضَى اللهُ ورسُوله أمْراً أن تكونَ لهُمُ الخِيَرَةُ مِنَ أمْرِهِم، ومن يَّعْصِ اللهَ وَرِسُوله فقد ضَلَّ ضَلالاً مبِيناً 8 .

4- الرجوع إليه عند النزاع

قال تعالى: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا 9 .

أي ردوه إلى الكتاب والسنة في كل الأحوال إلى قيام الساعة.

فمن كمال الأدب معه أن نرجع إليه في خلافاتنا مهما صغرت أو كبرت خفيت أو ظهرت وتعبير القرآن بـ”شيء” موحٍ بذلك سواء هذا الرجوع في حياته كما كان حال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعد مماته بالرجوع إلى سنته وهديه الشريف.


[1] الفتح ـ 7.\
[2] الصارم المسلول ـ ابن تيمية رحمه الله تعالى بتصرف.\
[3] مقاييس اللغة لابن فارس.\
[4] الإحسان ـ ج1 ـ 237.\
[5] مدارج السالكين ـ ج2 ـ 93.\
[6] التوبة ـ 63.\
[7] النور ـ 62.\
[8] الأحزاب ـ 31.\
[9] النساء ـ 58.\