يقول الله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (التحريم، 6). وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه سيدنا أبو هريرة نجد كلاما عظيما يحمل إشارات أعظم، يقول فيه الحبيب صلى الله عليه وسلم: “إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له”. فالذرية إذا صالحة كانت أم فاسدة هي من عمل الإنسان. طبعا لا نختلف على أن الصلاح من الله تعالى لكن الهداية يقيد الله تعالى لها بشرا يهدون كما أن الغواية تضليل شيطان جن أو إنس.
تخريج أجيال صالحة إذا هو مسؤولية التربية، أجيال سليمة الفطرة تعبد الله تعالى وتوحده.
تخريج هذه الأجيال أيضا هو مسؤولية تاريخية، ففي ظل التخلف الاقتصادي والاجتماعي والعلمي والسياسي من فقر وقهر وجهل ومرض.. في ظل غثائيتنا وتكاثرنا الأرنبي، توضع على عاتقنا مسؤولية صنع أجيال قادرة على انتشال الأمة من ورطتها التاريخية، قادرة على الاعتزاز بهويتها الإسلامية، قادرة على التبشير بالمشروع الإسلامي والدفاع عنه.
فعن أية تربية نتحدث إذا؟
قد لا يختلف إثنان على أن العملية التربوية هي عملية رعاية وإصلاح وتنمية وتقويم للجوانب الصالحة في الإنسان.
لكن التربية التي نقصد والتي عنها سنسأل هي التربية الإسلامية المحافظة على الفطرة والمستنيرة بالهدي النبوي، التربية التي تتناول الطفل في شموليته لتعطي القلب حقه والعقل حقه والجسم حقه.
ولن تكون التربية الإسلامية مستحقة لهذا الاسم إلا إن تناولت الإنسان فأودعت قلبه إيمانا وعقله حكمة وجسمه صلابة.
ولا ينبغي أن نسقط من حسابنا تعدد الأطراف التي تسهم بشكل أو بآخر في تشكيل شخصية الطفل وتكوينه.
1. الأسرة
يأتي في مقدمة هذه الأطراف البيت. فمما لا شك فيه أن الأسرة هي لبنة الأساس في الأمة، هي مأوى الإنسان لإشباع حاجاته الطبيعية إلى الأمن والاستقرار، ووسيلة أساسية لتحقيق السكينة النفسية والاجتماعية بالنسبة للزوجين: وَمِنْ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُوٓاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَٰتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُونَ (الروم، 21).
فوجود علاقة زوجية ناجحة قوامها المودة والرحمة مع احترام الأدوار والاستعداد للالتزام بمسؤوليات المؤسسة الزوجية هي الكفيلة بتوفير فضاء خصب لإشباع احتياجات الطفل، وتعهده بالتربية والتنشئة، وبالتالي تخريج أجيال سوية متزنة واعية بما لها وما عليها.
كما أن إطلالة بسيطة على البحوث التي أجريت في الموضوع تثبت أن أغلب حالات الجنوح لدى الأحداث ترجع بالأساس إلى انحراف الأسرة عن تأدية وظيفتها التربوية على نحو سليم (الطلاق، العنف، الإهمال…).
فالبدء إذا منك أيتها الأم ومنك أيها الأب، بدءا بإصلاح ما بكما وإصلاح ما بينكما ليصلح عملكما ولتخلقا جوا صحيا لا يخنق التربية في مهدها. وبعد ذلك أنتما بحاجة إلى اكتساب مهارات وآليات وخبرات في هذا الباب، يرجع فيها إلى ذوي الاختصاص.
2. المدرسة
طرف ثانٍ يكتسي من الأهمية الشيء الكثير ويفترض أن يتكامل مع الأسرة لإنجاح العملية التربوية.
نبدأ من التعليم الأساسي حيث المدارس لا تمحو الأمية الأبجدية إلا عن نسبة قليلة من التلاميذ.
ثم ثانويات تهضم في أحشائها مراهقات ومراهقين لتخرج سطحيي المعرفة أو مخدرين منحرفين.
وجامعات تصنع العاطلين والعاطلات بعد أن تغمسهم غمسة أو غمستين في مرق الثقافة يائسين من المستقبل كارهين له رافضين.
هي إذا عقبة لا بد من اقتحامها من طرف الأمهات والآباء الواعين بثقل الأمانة الملقاة على عاتقهم وعظم التحدي الموضوع أمامهم.
نبدأ أول ما نبدأ بمد جسور التواصل مع المؤسسات التعليمية بكل أطرها خاصة المعلمين والأساتذة، لأن استمرار القطيعة بين الأسرة والمدرسة في حد ذاته عائق من عوائق التربية المنشودة، لكنه ليس طبعا العائق الوحيد، بل ثمة إكراهات شتى ومعيقات متعددة تحول دون إنجاح العملية التربوية.
من المعيقات أيضا العنف الموجه للأطفال وسوء معاملتهم، فكل نوع من أنواع الإهمال أو الحرمان المادي أو المعنوي والمتمثل في عدم إشباع حاجات الطفل النفسية والفسيولوجية والاستمتاع بطفولته في جو آمن ومفرح من شأنه الإسهام في فشل العملية التربوية، ناهيك عن الضرب والإيذاء البدني الذي له بالغ الأثر في تشكيل شخصيته، بل في مستقبله.
التكاثر العددي هو بدوره من المعيقات الكبرى. قد يظن البعض أن بتنظيم النسل تعطل سنة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي قال: “تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم” (رواه أبو داود (2050)، والنسائي (6/65))، نعم التكثير من النسل مطلوب شرعا والولد الصالح ذخر الأمة في الدنيا ولوالديه دنيا وأخرى، لكن ما الشروط ليكون العمل الإنجابي صالحا، ولكن ما الشرط لتكون الكثرة مما يبهج نبينا في معرض مكاثرة الأمم؟ ما معيار الصلاح في حساب الدنيا والآخرة؟
الحديث النبوي الشريف عن الكثرة الغثائية جامع مانع في المسألة، إن قرأنا حديث المكاثرة دون عرضه على حديث الغثائية قصر فهمنا واندفعنا في الدعوة إلى تأييد انحطاط الأمة جيلا بعد جيل من حيث نظن أننا ندافع عن السنة وندعو إليها.
3. الإعلام
أما عن تاثير وسائل الإعلام فحدث ولا حرج. فالمتتبع للحركة الإعلامية يلمس أن السياسات الإعلامية موجهة توجيها تخريبيا للناشئة بقصد أو بدون قصد.
ولنتحدث فقط عن الإعلام المرئي على اعتبار أنه لم يعد حاجة اختيارية انتقائية وإنما أصبح هوسا طاغيا وقيدا إجباريا أوقع معظم شرائح المجتمع في أسره.
فالإعلام المرئي ومن خلال قدرته الجاذبة شغل الأسرة وحطم العلاقات بين أفرادها وأبطل مفعول المناخ العائلي.
فهل يجدينا المنع والحصار؟ وحتى إن قام الأب والأم بالرقابة والمنعK هل نظن أن عيون أطفالنا لن تتسلل إلى الأقارب والجيران والشارع؟
الأمر أكبر من مجرد المنع والرفض، إنه أمر يساس بالحكمة واللين والموعظة الحسنة، ويبتدئ منذ السنين الأولى بزرع قيم الصلاح والخير والفضيلة في نفوس أطفالنا طبعا مع اقتناء النافع والمفيد، في أفق أن يوجه الإعلام توجيها سليما ليسهم في تكوين الشخصية السوية المتوازنة.
لا أدعي أنني بهذه الأسطر المتواضعة قد وفيت الموضوع حقه، بل إن كل نقطة فيه تحتاج لأن تكون موضوعا قائما بذاته، لكنها إشارات أرجو أن يتفاعل معها القارئ الكريم من أجل تطوير النقاش وتنضيجه.