منذ دراستي الثانوية والجامعية كنت أبحث بشغف في بطون ما يقع في يدي من كتب عن ماهية الإنسان في هذا الوجود، وما هي ضوابط عقله وقلبه، وما كنه رحلة روحه التي تخفق بين جنبيه في الدنيا والآخرة. لم ترو ظمأ بحثي عن حقيقة إسلام وإيمان المرء كتب بعض مفكري الإسلام المعاصرين، رغم أن فترة التسعينيات من القرن الماضي كانت صحوة فكرية امتلأت فيها الجامعات بفكر الحركة الإسلامية بكل أطيافها المعتدلة والمتشددة، وببقايا الفكر الماركسي الاشتراكي. تتجاذب المسلم آنذاك متناقضات متمثلة في واقع اجتماعي تقليدي وممارسات دينية موروثة، ومجتمع يحاول الانسلاخ من الهوية الإسلامية تعبث به ظلمات الجهل والجاهلية الدينية والخلقية والسياسية، وفي عالم رأسمالي لائكي يتسابق نحو المصالح الاقتصادية والسياسية يدحر تحت أقدامه الإنسان والقيم والدين.
جرني البحث رويدا رويدا بتوفيق من الله عز وجل إلى مكتوبات الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله، فقرأت ما تيسر لي آنذاك. كان كلما متعت ناظري بجزالة أسلوب كتابته وانتقائه المحكم للمفاهيم زدت شغفا أن أقف على كل فقرة مرارا وتكرارا دون ملل. كلما أغلقت الكتاب أجد لتذكرته صدى لا يزال يرافقني، وحثه الدؤوب المسلم على النهل من حوض العلم النبوي في كل شموليته والتأكيد على الآخرة والنبأ العظيم. هذا ما توصل إليه عقلي البسيط المقارن بين مكتوبات الآخرين من معاصريه رحمهم الله ومن سبقوه. وأنه رحمه الله لم يخلق القطيعة مع فكر السلف فبين تلافيف كتبه يرتع أئمة كبار، كابن القيم وابن تيمية والعسقلاني وغيرهم من الرواد والمجددين في عصورهم.
لقد جمع رحمه الله ما تفرق من علم في كتب السلف وخلق بين كل التخصصات المتفرعة رابطا هو حلقة العدل المغيبة عبر قرون العض وفتنة الحكم. استنبطه من منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم في فقه شمولي يجمع دنيا وآخرة الإنسان. حيث لا يمكن الفصل بين فقه العبادات والسياسة، وقضايا الظلم والعدل. فقه يجعل القرآن إماما لعقل وقلب الإنسان. ويتخذ من النبوة والصحب الكرام منبع التربية والأسوة الخالدة عبر الزمن. ولفهم واقع حاضرنا بإشكالاته وقضاياه دعانا لقراءة التاريخ عبر منظار الوحي، لتكون النظرة والوعي من الأعالي لا من الأسافل.
كثيرا ما تساءلت بأي عقل وبأي قلب يفقه غاية وجوده؟ وهل يعرف ربه وما محبوبيته لنبيه والإسلام والإيمان ذاك البشري الحامل لبطاقة “مسلم” منذ ولادته في وطن ينتمي لجغرافية “إسلامية”؟ أبالعقل المعاشي المشترك بين البشر، أم بالعقل المتكبر الفلسفي المتكبر للحق والخالق سبحانه وتعالى؟
عند الإمام يبدأ فك هذه العقدة من إسماع الفطرة وتهذيبها لتفقه طريق العبودية لله وحده فتنتظم حياة العبد وفق شريعة الوحي. ينقل رحمه الله عن “علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي الله عنه قال: كل عقل لم يحظ بالدين فليس بعقل، وكل دين لم يحظ بالعقل فليس بدين. هذا الدين أتى بأحكام ألزمنا المبلغ عليه الصلاة والسلام العمل بها ووعد بها وأوعد. فإذا تريض العقل بالعمل والاجتناب يصل إلى الإحاطة بسر الوعد والوعيد” 1. مهما بلغ البشر من علوم وتسابق نحو التصنيع وابتكار كل صنوف الرفاهية والقوة، إن كان متجردا منصرفا عن صراط الحنيفية فإنه يقع لا محالة ضحية لسلطان هواه وأنانيته المستكبرة وفريسة للشيطنة والعتو. حينذاك “يصيب العقل المشترك الآلة عاهة العمى الكلي لا يبصر معها البصر المعتبر على أفق الأبدية، وهو البصر بالله وبأمر الله وبالدار الآخرة وما يسعد الإنسان هنا وهناك” 2.
يقحم الإنسان الغافل المفتون عن إسلامه وشروطه الإيمان بالله واليوم الآخر نفسه ضمن دائرة “الأنعام” و”الدواب” بالتعبير القرآني الحكيم. يقول الله عز وجل: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ[سورة الأعراف 179]، معيشة الأنعام إن اختار أن يضل على صممه وبكمه وعماه غير بصير بالغاية الاستخلافية المنوطة به كآدمي في أرض الله وعن المصير الأخروي. هذا المسلم الذي عطل حواسه وجوارحه أن تكون في معية خالقها وأن تنقاد لوحيه ومحبته إما غفلة أو فتنة أو تكبرا هو ضمن وصفه عز وجل صم بكم عمي فهم لا يعقلون، وفي موطن الاصطفاف مع المنافقين فهم لا يرجعون.
لقد سافر بنا الإمام عبر مكتوباته إلى عوالم الوحي الصافية منابعه زمن أهل السابقة في الإيمان والإحسان. وأبحر بنا عبر قوارب القرآن، أحيا ما تيبس من جذور عطشى للهدى والاقتداء وصحبة العلماء العارفين العاملين “نواب السلف وبقية الخلف يأمرون بالعمران في مدينة الشرع” 3. فالقرآن هو السبيل لنجاة أمة تنزل على نبيها فرقان من الله بين الكفر والإيمان. ينتشلها من جاهلية الضلالة إلى نورانية الهدى والرحمة. ليتعرف المسلم كيف يتغير بهذا العلم ويغير به في جماعة المسلمين، لأن “من ازداد علمه ينبغي أن يزداد خوفه من ربه عز وجل وطواعيته له” 4. يطهر مضغة القلب بطيب لا إله إلا الله، وتعظم النية لله عز وجل وتخلص. وتزكى النفس وتجاهد وتقتحم العقبات لتجاهد في سبيل الله.