رن هاتفي في وقت لم أعتد فيه أن يرن، إنها التاسعة ليلا، توجست خوفا فأسرعت للرد دون أن أتنبه للمتصل، فإذا بصوت تخنقه العبرات ويعتصره الألم يقول: “آسفة لأني أتصل بك في هذا الوقت، ولكني بحاجة إلى رؤيتك”. بالكاد عرفت صوتها، إنها زهرة، صاحبتي التي تعرفت إليها في مجالس الإيمان حيث عشنا حلاوة الذكر وذقنا لذة الإيمان بإحياء معاني حب الله ورسوله وحب المؤمنات وصحبتهم بعيدا عن هوس الدنيا وصخبها، بُعد لم ينسنا حمل هم أمة تعيش هوانا. كانت زهرة المجلس لطيب كلامها وحلاوة ابتسامتها التي تهجم على قلبك دون استئذان.
شردت بي الذكريات بعيدا إلى تلك الأوقات التي ذكرنا فيها الله وقمنا بين يديه جماعة نناجيه ونتضرع إليه، تتقدمنا زهرة بتلاوة خاشعة جمعت بين الإتقان وعذوبة الصوت كأنما أوتيت من مزامير داود عليه السلام… قطع صوتها حبل الذكريات، “أمل، أعتذر منك، ألا يناسبك غدا صباحا بعد ذهاب الأولاد للمدرسة؟”، أسرعت قائلة: “مرحبا زهرتي، يناسبني، اشتقت إليك، ما هذا الغياب؟”… وقبل أن استرسل في العتاب قالت بصوت مقتضب على غير عادتها: “إذن أراك غدا إن شاء الله”.
ما إن انقطع الاتصال حتى تدفق داخلي سيل من الأسئلة عن كنه هذه الزيارة المفاجئة بعد أن انقطعت أخبارها لمدة ليست بالقصيرة، لم أرها ولكنها كانت حاضرة في دعاء الرابطة فبه تزداد الصلة الإيمانية والمحبة بمن ندعو لهم، وعدت بالذكريات إلى زهرة مجلسنا كيف كانت حريصة على حضور مجالس الذكر وتحفز صويحباتنا على ذلك، وتنشد من “شذرات”:
بمجلسـكم حفت ملائكـة الـربِّ
ويُتلى اسْمُكم بالمدح في ملإ القُرْبِ
أيـا ذاكرين الله فزتم وطبتم
بذا جاءت الأخبار في مُحكم الكُتْبِ
وَيَغْشَاكُمُ وَاللَّهُ رُوحُ سَكِينَةٍ
كَمَا بَشَّرَ المُخْتَارُ مِنْ نَسَبِ العُرْبِ
لكن انشغلت مع التزامات التعليم الخصوصي الذي يستنزف جهد المعلم ووقته، وجدت نفسها بين وظائف كثر تتجاذبها: زوج وأم ومعلمة وابنة، بدأ غيابها تدريجيا، كنت ألح عليها بالحضور في بداية الأمر، لكن خشيت “أن أرهقها من أمرها عسرا” فتوقفت عن الإلحاح، وظننت كما ظنت أن هذا الغياب لن يطول، ربما شهرين حتى تستأنس وتعد ما يلزم من جذاذات ودروس و… لكن مرت سنتين ونصف، ولم تعد زهرتنا!
رن الجرس، أسرعت لفتح الباب، كنت مشتاقة لرؤيتها ومتلهفة لمعرفة أخبارها، حاولت إخفاء ملامح الصدمة، فليست زهرة التي أعرف، شيء فيها قد تغير، أحست بما يدور في خلدي، قالت بصوت يختزن قاموسا من معاني الألم “نعم، لم أعد زهرة التي عرفت، قد ذبلت أوراقها وطال شحوبها وانطفأ ما كان مشتعلا في قلبها، لقد هلكت يا أمل”… قاطعتها والخوف يملأ أوصالي “هل أنت مريضة؟” كل ما فكرت فيه أن يكون قد أصابها الورم الخبيث الذي يفاجئ صاحبه.
لم تجب، ولكن دموعها انهمرت كشلال، وأجهشت بالبكاء طويلا، هممت بإيقافها ولكن أحسست أنها دموع قد ظلت حبيسة العين فلم تفض إلا هذه اللحظة بعد أن احترق القلب من لفحها، احتضنتها وداخلي يقول: “اسكبي دموعك علّها تروي ما ذبل، وتسكن ما بك من ألم”.
بعد أن هدأت نفسها وسكن قلبها وخفّت دمعتها، قالت بصوت يملأه الألم وقلب منكسر: “نعم مريضة، وما أخبثه من مرض، بدأ يسري منذ انقطع وصالي بكم”. ظننتها تقصد مرض السرطان، سألتها وأنا أتوجس خوفا من الجواب: “في أي جزء من الجسم ظهر؟”، أجابت وعيناها مسمرتان إلى لوحة معلقة على الحائط قد كتب عليها (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ): “ليس كما تظنين يا أمل، الأمر أدهى وأمر، إنه مرض الغفلة الذي أردى قلبي قتيلا، آه…
زلَّتْ بِي الأَقْدَامُ مُذْ فَارَقْتُكُمُ
وَالنَّفْسُ مِنِّي مُزِّقَتْ بِجِرَاحِ
لِلَّهِ أَيَّامُ الصَفَاءِ تَبَدَّدَتْ
فَمَتَى تَعُودُ بِطَيْبَتِي أَفْرَاحِي
افتقدت بستاني الذي كانت فيه تُجنى ثمار خشية الله، وتنبت فيه غراس طاعة الله ورسوله، افتقدت تربتي التي كانت تمدني بمادة الحياة؛ ذكر وتسبيح وتجديد النية بإخلاص العمل… افتقدت نسمات المحبة لله… سنتان ونصف وأنا أصارع اضطراب الحياة اليومية، سنتان ونصف وموجان فتنة العمل والشارع والبيت تتقاذفني، وها هو شعبان قد أذن بالرحيل وقبله رجب قد انصرم، وقد قيل شهر رجب شهر للزرع، وشعبان شهر سقي الزرع، ورمضان شهر حصاده، وما غرست شيئا وسقيته لأجنيه في رمضان، كيف أستقبله بقلب غافل وقد سكنته مشاغل الحياة اليومية؟ كيف سأعيش حلاوة العبادة فيه وما هيأت الوعاء؟ ما أظنني إلا سأذوق مرارة الحسرة والندامة… آه يا أمل على أيام ضاعت مني!
وَا أَسَفِي عَلَى زَمَانٍ مَضَى
يَا حَسْرَتا فَرَّطْتُ! وَالعُمْرُ طَارْ
بِاللَّهِ ضُمُّونِي لِجَمْعِكُمُ
أَهْلَ الصَّفَا فَمَا لَنَا مِنْ قَرَارْ
تُبْتُ لِرَبِّي فَأَنَا ضَارِعٌ
إِلَيْهِ يَرْحَمْ دُمُوعِي الغِزَارْ
آه يا أمل ليتك لم تتركيني، ليتك تحايلت على هاته النفس التي سولت لي الابتعاد بحجة أنه لن يطول، وأنني سأتأقلم مع الوضع الجديد قريبا، آه ثم آه هلكت يا أمل !” ثم عادت للبكاء من جديد وقلبها يعتصر ألما.
أوقفتها وأنا أتلو قوله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ما أجمل العودة إلى الحبيب! فهو ينتظر محبه أن يعود ويخاطبه أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ، بابه مفتوح ما دامت الروح لم تغادر الجسد، لو ناديته بقلب منكسر “يا رب” لقال: لبيك أمتي… قاطعتني: “إن ثقل هذه السنوات يجثم على صدري فتنقبض أنفاسي وكأني أعيش في زنزانة مقيدة فلا أستطيع كسر هذه الأغلال…”، أجبتها: “اكسريها بالاستغفار وأذيبيها بسجدة في الأسحار والتمسي صحبة الأخيار؛ ترفع همتك وتأخذ بيدك ولا تفرطي فيها فنعم المعين، وليكن شعارك “تعالي نؤمن ساعة” كما كان يفعل ابن رواحة رغبة في مجالس تتباهى بها الملائكة”.
همست لي بعد أن سكنت نفسها واطمأن قلبها: “عديني ألا تتركيني، وددت لو تركت العمل، ولكن تعرفين مدى حاجتي إليه…” قلت لها قبل أن تستسلم لحزنها: “لن أتخلى عنك، وسأكون لك السند، لقد دُفعت إلى العمل دفعا، فاعتبريه جهادا، وأنت الآن تؤدين رسالة عظيمة؛ تربية النشء وتعليمهم، فاعتبريه بابا من أبواب السلوك إلى الله، ولا تتركي رياض الجنة؛ مجالس الإيمان والذكر، اجعليها في بيتك، تكفيك مشقة التنقل وتنهلي من بركاتها وأسرتك، وليكن لنا موعدا بعد الفجر نستظهر فيه ما تيسر من القرآن نستقبل به يومنا”.
احتضنتني وقد لمعت عيناها وبرقت أسارير وجهها، وكأني بها قد وجدت ترياق دائها. تواعدنا على أن نكون سندا لبعضنا وأن نعتني بأحبتنا ونتفقدهم ولا نتركهم للنفس والهوى وشياطين الإنس والجن تستحوذ عليهم.