كلما مررت بجوارها أحن إلى أيام كنت أصعد وأنزل بين طبقاتها مرحة فرحة، إنها عمارة من عمارات الحي المحمدي الشامخة، شموخ أهل هذا الحي العريق بالدار البيضاء، شهدت على فترة الاحتلال الفرنسي للمغرب، كما تشهد حياة وذكرى من سكنوها ومنهم جدتي لأمي “فاطمة “أو كما كنت أناديها “ماما الحاجة، كان مسكنها يتوسط الطابق الرابع للعمارة التي تضم ستين شقة، جمع سكانها الحب وطيب المعشر واحترام الكبير وتربية الصغير، فرح الواحد منهم فرح للجميع، وحزنه مدعاة لمواساة ودعم الجميع، والسند كلما دعت الحاجة.
تعود بي الذاكرة إلى أولئك الطيبات اللواتي عرفن قيمة الجار وجزاء حسن الجوار جارات جدتي؛ عن يمين شقتها تقطن “ختي رحمة “الفاسية و”ماما نجمة “العبدية و”عوينتي زبيدة “الدكالية، وعن شمالها “مي فاطنة “التازية ولا أنسى “مي عايشة “الصحراوية رحمهن الله جميعا، اختلاف أصولهن لا يظهر إلا في تنوع بعض أطباقهن اللذيذة التي تجانست بمرور الزمن.
كلما أسعدتني الظروف بالمبيت عند جدتي، أستيقظ على خفة ظلها وخيالها الجميل، أول ما تفعله عند استيقاظها من النوم بعد أداء صلاتها، هو فتح باب البيت على مصراعيه والخروج لتتفقد من أمام الباب صويحباتها فلا تسمع إلا صوت تحية الصباح مصحوبة بسؤال عن الصحة والأولاد وكيف أصبحن؟
كان لهن وقت يكاد يكون مقدسا وهو جلسة شاي العاشرة صباحا، فبعد أن تقضي كل منهن أشغالها الصباحية من ترتيب وتنظيف وعجين… ولا يبقى إلا تحضير الغداء يجلسن متحلقات حول صينية فضية أو نحاسية ينعكس لمعانها في كؤوس الشاي المرتبة بحب، وما جادت به يدا إحداهن ذاك الصباح من فطائر أو حلويات أو ما “قسم الله” على لسانهن، المهم أن يلتقين، يتقاسمن هموم الحياة، ويتشاورن في أمورهن ويتشاركن آمالهن.
لا ينتهي اليوم عند شاي العاشرة بل يتواصل بتتمة الأشغال فتخرج كل واحدة أمام شقتها؛ هذه تنشر الغسيل وأخرى تلمع أواني الألمنيوم والثالثة تغسل القمح… أسمع ضحكاتهن وهمساتهن وكلامهن الجميل عن الماضي والحاضر يتحدثن في كل شيء في الرياضة والانتخابات ودراسة الأولاد وكتب فلان التي ستدرس بها السنة القابلة فلانة أخته (التي هي حقيقة بنت الجيران) وموضة القفطان الذي يبرعن في تصميمه وإبداع ألوانه.
كم كن جميلات الروح، طيبات القلب، تقبل علي ختي “رحمة ” بالعناق والتقبيل كلما رأتني، فرحة وكأنني حفيدتها هي رحمة الله عليها كانت آخر من غادرتنا هذا العام، وكم كانت تأسرني ابتسامة ماما “نجمة “وصوتها الرخيم يقول لي “زيدي بوسيني” ولا أنسى حكمة عوينتي “زبيدة” وهي تقدم النصائح وخبرة السنين وأنا أستمتع بسماعها، وزغرودة مي فاطنة التازية، التي تصل العمارة المجاورة صباح “المولد النبوي” وتتبعها الأخريات بالصلاة على النبي والزغاريد، ومي عايشة الصحراوية أذكرها دائما بملابس بيضاء تزيد من جمالها الصحراوي، وتعبر بحالها عن بياض قلبها وفيض حبها وعطائها العميم.
أذكر أني كنت أراهن في أفراح العائلة وفي أحزانها، حتى وإن كانت خارج المدينة، يفرحن جميعا ويتقاسمن الحزن مواساة وسندا.
اليوم وأنا أمر بجوار تلك العمارة أتذكر كل تلك الأيام الجميلة، أتذكر أولئك الفضليات اللائي عرفن معنى الجوار وحسن الجوار وأن الجار حبيب وأخ والجار سند والجار مواساة ومحبة وعشرة بالمعروف، أمر بجوارها وتمتد عيناي إليها، يحن قلبي وعقلي إلى نساء لم يكن إلا نساء أميات بسيطات من هذه الأمة الطيبة، لكنهن إضافة لأدوارهن الجليلة كزوجات صالحات وأمهات ناجحات، كن بحق جارات طيبات مفطورات على الخلق الرفيع… رحمة الله عليهن جميعا.
أرفع رأسي لأرى تلك الأبواب التي كانت لا تغلق إلا ليلا وهي مغلقة، وشرفة العمارة فارغة، صحيح أن الزمن غير الزمن والظروف غير الظروف، لكني أتمنى أن يظل الأبناء على العهد، يؤمنون بحق الجار وحرمة الجار، وأن الوصال والتهنئة والمواساة والتفقد والسؤال عن الحال هو من صميم حسن الجوار.