بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه وإخوانه وحزبه
جماعة العدل والإحسان
بيان مجلس الإرشاد حول تعديل مدونة الأسرة
تابعت جماعة العدل والإحسان -كباقي مكونات الشعب المغربي- ما نشر من تعديلات تتعلق بالمدونة، اهتماما منها بالأسرة وقضاياها التي تعد من أمهات القضايا في ديننا، وكان الأمل أن تستجيب هذه التعديلات لمتطلبات المغاربة وتطلعاتهم، وأن تزيدهم ارتباطا بهويتهم ودينهم وأخلاقهم النبيلة، لكنها جاءت على غير ما كان منتظرا.
ولئن كانت هذه التعديلات لا تزال عناوين عريضة، ويكتنف عددا منها الغموض، وتحتمل تأويلات عديدة، إلا أننا انطلاقا مما أذيع ونشر إلى حد الساعة نسجل ما يلي:
1- إن المرجعية التي ينبغي الاستناد إليها في مثل هذه القضايا هي القرآن الكريم والسنة المشرفة وغيرهما من مصادر التشريع المعتبرة، والاجتهاد بشروطه فيما لم يرد به نص، وليس الاعتماد على ما شذ من أقوال في الفقه؛ تغليبا لطرف على آخر أو استجابة لمسارات غريبة عن مجتمعنا وعوائده وأحواله وظروفه وثقافته، وذلك بالتأصيل لها وشرعنتها، بدعوى جلب مصالح ودرء مفاسد.
فعلى سبيل المثال هل يستقيم شرعا وعقلا أن نعتبر أن احتفاظ الزوجة أو الزوج ببيت الزوجية في حال وفاة أحدهما سيحقق مصالح أَوْلى وآكد مما نصت عليه آيات المواريث المنزلة من لدن حكيم عليم؟
2- إن من حق المغاربة أن يعرفوا المنهج الذي سلكه “المجلس العلمي الأعلى” في استجابته لطلباتٍ وإعطاء حلول وبدائل في مسائل أخرى، وإطلاع الناس على الأدلة التي استند إليها في الاستجابة أو التحفظ، رَفعْا للبس، وتضييقا لهامش التأويل، فمن حق المغاربة على المجلس معرفة كيفية صياغة هذه الاختيارات، وما ستسهم به في تحقيق التماسك الاجتماعي!
3- إن مكونات الأسرة مرتبطة بميثاق شرعي غليظ مبني على المكارمة والمحبة والاستمرارية والثقة المتبادلة والإحسان والعدل والتشاور والتعاون، مع احترام خصوصياتِ كلٍّ من الرجل والمرأة في تحمل المسؤوليات وتوزيعها بتوازن وتكامل، لكن عددا من هذه التعديلات المرتقبة من شأنها تذكية الصراع بين الزوجين، وجعل العلاقة بينهما مرتبطة بالماديات فقط، مما سيُسهم في تغييب المعاني السامية التي من أجلها أنشئ بيت الزوجية. فهل نحن بصدد بناء بيوت تسودها السكينة والمودة والرحمة والذوق السليم، أو إعداد حلبات للصراع والكراهية وتمزيق الأسر والعائلات والمجتمع؟
4- نربأ بعلمائنا الأفاضل أن يلووا أعناق النصوص إرضاء للحكام الخاضعين للضغوط الخارجية، بل عليهم حمل الأمانة بقوة وإخلاص، وهذا يتطلب من علمائنا الأجلاء التيقظ والفطنة لما يراد لأسرنا من تشتت وانسلاخ عن الفطرة والقيم والأخلاق، بل التنبه لما يحاك ضد إسلامنا الحنيف.
فالعلماء ليسوا خبراء شرعيين كما يراد لهم، بل الواجب عليهم البوح بالحق والصبر عليه؛ لأن الله تعالى أخذ الميثاق عليهم بالتبيين وعدم الكتمان، ففي سنن ابن ماجه: “عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لَا يَحْقِرْ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ” قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَحْقِرُ أَحَدُنَا نَفْسَهُ؟ قَالَ: “يَرَى أَمْرًا لِلَّهِ عَلَيْهِ فِيهِ مَقَالٌ ثُمَّ لَا يَقُولُ فِيهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَقُولَ فِي كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: خَشْيَةُ النَّاسِ، فَيَقُولُ: فَإِيَّايَ كُنْتَ أَحَقَّ أَنْ تَخْشَى”. كان الله لنا ولكم. إن العالم يبدع إذا كان حرّاً عزيزا وإلا كان اجتهاده ناقصا معيبا.
5- لقد تم الإفصاح عن هذه التعديلات في الوقت الذي يتعرض فيه الشعب المغربي للعديد من الإجراءات التي تمس مستوى عيشه جراء الغلاء المتزايد والتفقير الممنهج، واستهداف قيمه الخلقية والدينية، وانتظاراته في أن يأتي تعديل مدونة الأسرة بمخرجات تخفف عنه هذا الوضع المتفاقم وتحقق للأسرة المغربية العيش الكريم والاستقرار المجتمعي، إلا أن العكس هو الذي حدث، فهذا الذي خرجت به علينا المدونة يزيد من تهديد التماسك الأسري وتعميق الهوة داخل العائلات، في مقابل تملص الدولة من واجباتها المؤكدة في ضمان العدل الاجتماعي والاقتصادي المبني على الإرادة السياسية الصادقة. فإذا كانت الدولة تجتهد في تحصيل الضرائب بحق وبغير حق، فإن من واجبها ألا تتنصل من مسؤوليتها في كفالة المرأة المحتاجة أو الأسرة المعوزة إذا كانت في حاجة للمساعدة، وتعوض ذلك بالاعتداء على أصول واضحة في شرع الله، وإثارة الفتن بين العائلات والأرحام.
6-إنه بنظر سريع إلى مخرجات الإحصاء الأخيرة وما تقتضيه من يقظة في الوضع الديمغرافي للبلد، يظهر جليا أن ما تم الإعلان عنه في المدونة يسير في الاتجاه المعاكس لمصلحة الوطن، فهذه “التعديلات” غير المتوازنة وغير المنصفة ستفاقم حالات الطلاق المتفاقمة أصلا والتي ارتفعت مثلا في سنة 2021 إلى 135000 حالة بعد أن كانت سنة 2014 حوالي 43438 حالة، كما أن هذه “التعديلات” المجحفة والمخيفة ستزيد الشباب عزوفا عن الزواج مما سيضاعف التأثير على معدلات الخصوبة في البلاد وعلى الهيكل العمري للسكان، حيث سجل الإحصاء الأخير أن نسبة الأطفال دون سن 15 سنة انخفضت إلى 26.5 % من إجمالي السكان.
فماذا يراد لمستقبل هذا الوطن؟ وماذا يراد لشبابه وشوابه ورجاله ونسائه وأطفاله؟ هل يريدون للمغرب أن يصل إلى ما آلت إليه جل المجتمعات الغربية من تفكك أصبحت إحصاءاته أكثر من صادمة؟
7- ندعو الشعب المغربي الأبي بكافة قواه الشريفة من علماء ومجتمع مدني وجماعات إلى التعبئة واليقظة التامة من أجل الحفاظ على أسرنا وضمان استقرارها وكرامتها في ظل قيمنا الحضارية والوطنية وبمنأى عن الإملاءات الخارجية والأجندات الداخلية التي تستهدفها.
إن الاستجابة المستمرة والمتزايدة للضغط الخارجي لن تزيدنا إلا ترديا وانسلاخا عن ديننا وقيمنا وفطرتنا. إن هذه الاستجابة تتجلى اليوم في أوضح صورها، فهاهم المتنفذون في هذا البلد “يوفون” بالعهد الذي قطعوه لـ”سيداو” (لجنة القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة) التي أمهلت السلطات المغربية إلى 2024 للجواب عن إملاءاتها، فها نحن نشهد في هذه الأيام الأخيرة من السنة المذكورة هذه التعديلات التي يتحايل بعضها على شرع الله خضوعا لتلك الإملاءات كقضية الإرث التي يتم التلاعب بأنصبتها.
وفي الختام نؤكد أن معالجة مشاكل الأسرة وإنصاف مستضعفة المستضعفين المرأة لا يمكن أن يتحقق إلا بمقاربة شمولية، فالأسرة جزء من كل، والعلاج ينبغي أن يكون تربويا تعليميا إعلاميا اجتماعيا اقتصاديا قضائيا، وسياسيا قبل كل شيء. فلا عدل داخل الأسرة إذا غاب العدل داخل الدولة وداخل المجتمع.
إن ما تعانيه المرأة المغربية من تهميش وظلم وقهر يعود جزء كبير منه إلى سياسات الدولة، وجزء آخر إلى العقلية غير السليمة لبعض الرجال، وكذا بعض أعراف المجتمع السقيمة. ولا يمكن إيجاد حل لهذا الواقع إلا من خلال تحقيق العدل من قبل الدولة، ومحاربة الفساد والافتراس ونهب خيرات البلد. ومن جهة أخرى يتطلب الأمر التركيز على التربية والتنوير، ونزاهة القضاء، وفاعلية المجتمع المدني. وبعد ذلك يأتي دور القوانين كخطوة مكملة لهذه الجهود، في ظل شرع الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
حفظ الله أسرنا وبلدنا من كل سوء ومكروه. والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
السبت 26 جمادى الآخرة 1446هـ/28 دجنبر 2024.